الواصل : ما بعد «فن الصوت» أو كيف تنتحر القصيدة العربية؟

وجوه

Active member
صحيفة الرياض مقال للواصل الحلقة 7
فن الصوت أو غناء القصيدة العربية قديماً (7):
ما بعد «فن الصوت» أو كيف تنتحر القصيدة العربية؟


وردة

أحمد الواصل
.. إن ادعائي بأن «فن الصوت»، في قسمه الأوسط الأساس هو فن تلحين القصيدة العربية، بعد أن درسنا تفكيكاً الصيغ الغنائية التي ترافقه من أمامه ك (التحريرة أو الاستماع أو الموال) ومن خلفه (التوشيحة أو الختم)، فلابد أن نعرف فن غناء القصيدة العربية في قوالب سميت: «القصيدة» (67)، إذا ما قصرنا كلامنا على النصوص الشعرية التي اختيرت لفن الصوت، من القصائد العمودية (التناظرية)، مثل: «ملك الغرام عنانيه» شعر: البهاء زهير التي لحنها عبدالله الفرج أو «كفي الملام» شعر: فهد العسكر التي لحنها أحمد باقر أو «ولا تنسيا» شعر: مالك بن الريب التي لحنها خالد الشيخ، فقد حصل أن لحنت قصائد شعرية على غير ما كتبت عليه، فقد لحن محمد القصبجي موشح: «أسقنيها» شعر الأخطل الصغير في قالب القصيدة غنائياً، وحصل أن لحنت قصيدة: «يا ليل، الصب متى غده»، وهي عمودية أو (تناظرية) على قالب الموشح.. إن الغرض من قول الكلام الفارط هو أن القصيدة قالب غنائي، على غير القصيدة في الأدب كونه شكلاً عروضياً شعرياً.
.. إذ نحن في منطقة عند فن الصوت للكلام عن مسألة تطور تلحين القصيدة العربية منه أو كان سبب انتحارها، فأغلب من مر معنا من الملحنين رأى إلى سمرة فن الصوت كما لو كانت عناصر في قالب واحد بينما هي صيغ غنائية منفصلة، تكاد أن تكون قوالب مستقلة تماماً، وهذا ما رأيناه في أن هناك من تنازل عن قالب الاستماع والتحريرة تماماً، كأحمد باقر، غنام الديكان وخالد الشيخ، لكن كانت هناك حيرة موسيقية حول صيغة التوشيحة التي تغري في كونها فقرة غنائية تخدم التصاعد التعبيري الذي ربما لا يسمح للصيغة السابقة لها بذلك، وأكثر دليل على ذلك نموذج: «مرمر زماني» لطلال مداح، فيما كشفت المحاولة التي أقدم عليها كل من باقر والشيخ إلى حلحلة بناء لحن التوشيحة، دون التنازل عنها، وسنرى ان محمد باقر سوف يحل الحيرة الموسيقية التي لدى باقر والشيخ، بأن حول أغنية فن الصوت في نموذج: «حالم - 1990» (النظائر - الكويت) إلى مزيج ملتحم بين اللحن الأساس والتوشيحة، كذل بين المغني المنفرد والكورس النسائي، وفي هذا تفردها الذي قضى عليها بأن لا تكون تجربة ولادة، لصعوبة التركيب اللحني الذي وإن بدا بسيطاً، إلا أنه ينطوي على تفكير عميق جهد حتى توصل إلى صيغة لحنية ليعيد قولبة صيغتين بدت في أحايين متنافرة، لم تخف عندما نحاول تلمس التركيب القسرية بين صيغة التوشيحة التي توهم بالكورس في حال الصوت الردادي، لكنها تنكشف عن مأساة فن الصوت في انتحاره الموسيقي الذي بات يحتاج إلى جراحة أخرى ربما لم يحن وقتها.

.. إنما الذي أود أن أوصله إلى القارئ/القارئة أن ما تبقى من بعد محاولتنا في قراءة حالة فن الصوت، عبر مسألة شعره بين العامي ك (الرودماني) والفصيح (القصيدة العربية)، وعلاقة التوشيحة بالموشح أو فقر الخانة، ثم المعالجات اللحنية المقترحة التي استطاعت أن تتخلى عن الاستهلال الغنائي في صيغتيه (التحريرة والاستماع)، لكن لم تنته إلى وضع اقتراح للتخلص من التوشيحة التي تظهر أهميتها كفقرة غنائية، ولا يستطيع أي ملحن الفكاك من أسر الذاكرة التي تثقله في نموذجها الجاهز حين يتسرب أو يوجد لنفسه محلاً قسرياً، فيما يمكن التخلي عنه، ولا ننسى أن الإيقاع في نوعيه: السداسي والرباعي، ظل يحمل تلك الذاكرة الغنائية المحتكمة إلى تقاليد سمرة فن الصوت، التي ربما يقع في أسرها ليس الملحن فقط بل مجابهة مندفعة في تبرم بعض السمعية من اختفاء التوشيحة نفسها. إذ ما عادوا يسمعون تلك المفردة الغنائية الإنذارية بمجيئها: «آحيه..».

.. إن الملحنين فيما بعد مرحلة المدارس اللحنية التي اعتمد نتاجها بين الأسطوانة والإذاعة، الذين صارت لهم بطولة في انتقال أعمالهم تقنياً بين الكاسيت والتلفزيون (أغنيات مصورة أو حفلات مسرح منقولة)، ما أدعى في ثقافتهم الموسيقية أن تكون متسعة إلى ألوان غنائية خارج بيئاتهم، حيث توفر لكثيرين أن يتلقوا ذروة الإنتاج الغنائي ما بين الخمسينات والستينات عبر مركزين، هما: القاهرة وبيروت.

.. أعتقد بأن هذا الجيل من الملحنين، كذلك الشعراء والشاعرات، والمغنين والمغنيات، لم يكن ليغيب عن بالهم أن يتبنوا بعض الأنواع والأشكال الغنائية التي تدرجت نحو مجال كلاسيكي أرسى ملامحها الأساسية وكشف عن عناصرها الفنية، مثل: الموال، القصيدة، الطقطوقة أو (الأهزوجة)، المحاورة الغنائية والمناجاة، وكذلك توافر له معرفة بعض الأنماط الغنائية التي تتبع شكل الوصلة تتخذ مسميات أبرز صيغة غنائية فيها، كالمقام العراقي في العراق، والقدود الحلبية في الشام، الدور المصري في مصر، والنوبة في المغرب العربي (تونس، الجزائر والمغرب) أو تكون بعض الصيغ متشابهة إنما تختلف مسمياتها كالمقام العراقي وفن الصوت في (الصيغة الوسطى)، أو الموال والجس في (الحجاز)، فيما تنكشف بعض الأنماط عن عدم وجودها بين قُطْر عربي وآخر، كمثل فن السامري في نجد وشرق الجزيرة العربية في (الخليج العربي) أو الدان في اليمن أو المجرور في الطائف ومكة.

فن الصوت يمشي على خنجر

.. إن مفتاحنا في هذا الجزء ما قبل الأخير عن فن الصوت، نحو أن نرى ما كان تجاوزاً للإشكالات الفنية بين ما أثارته عناصر فن الصوت في صيغها، والمقترحات التي حاورت موسيقياً في مرة وفي أخرى تحيرت موسيقياً، لكن سوف نبدأ عند المغني والملحن في نفس الوقت خالد الشيخ، الذي دأب على غناء القصائد، القالب الغنائي، في كل شريط يصدره خلال عقد الثمانينات، بواقع شريط كل عام، ما بين شريط: «كلما كنت بقربي - 1983» حتى شريط: «العب. العب - 1989»، فقد كشفت مختاراته الشعرية الفصيحة علاقته بتنوع ألحانه بين الموشح، القصيدة والمحاورة الغنائية.

.. فقد قدم في الموشح: «ما للمولَّهْ» شعر: ابن زُهْر، وفي القصيدة: «عندما كنت صغيراً» في شريط: «يا عبيد - 1984» (النظائر - الكويت)، وقدَّم المحاورة الخالدة: «زنابق لمزهرية فيروز» شعر: سميح القاسم، بمشاركة رجاء بلمليح من شريط: «العب.. العب - 1989» (روتانا - السعودية).

.. إنما لو عرضنا إلى القصائد التي لحن، فهو بدأ في قلق تأثير تأثير من سلف موسيقي كرياض السنباطي في قصيدة: «جراح في عيون الحب - 1983» شعر: علوي الهاشمي، من شريط: «كلما كنت بقربي» (النظائر - الكويت)، وتخلى عن قميص السنباطي إلى سترة محمد عبدالوهاب في قصيدة شهيرة ظلمته، هي: «عيناك - 1986» شعر: نزار قباني، من شريط: «كمنجة» (النظائر - الكويت)، لكنه لم يكن مستسلماً تماماً إلى ذلك القميص أو تلك السترة بل جنح إلى مرحلة متقدمة مع شعر محمود درويش في قصيدة من الحجم الكبير كشفت شخصيته التلحينية بألقها الفني ومقدرتها الفذة: «أبيات غزل - 1985» من شريط: «مدير الراح» (النظائر - الكويت)، والتالية، هي قصيدة: «أغنية حب - 1987» من شريط: «نعم.. نعم» لنفس الشركة المنتجة.

.. إن اختيار خالد الشيخ لقصائد من شعر التفعيلة وتنسيقها حسب المقاطع اللحنية في سيناريو لحني تحتمه المعاني الشعرية في لحظات وفي أخرى تصاعد الغناء بين التعبير والانفعال أو الطرب والنشيد.

.. ما يهمنا هو اتصال هذه القصائد بأرشيفها العربي عامة، وتدخل في إسهامات تلحين القصيدة العربية في لحظة الثمانينات الميلادية التي كانت تشهد آخر ذرى الأغنية الطويلة بين مغنيات عربيات مرموقات من جيلين متعاقبين مثل: وردة وفايزة أحمد أو عزيزة جلال وميادة الحناوي أو بين ملحنيها: بليغ حمدي ومحمد الموجي أو سيد مكاوي وحلمي بكر.

.. ربما تسعفاننا قصيدة: «أبيات غزل» وأغنية «حب»، في أنهما على قدر اتصالهما بإضافة مقترح عزيز في أرشيف تلحين القصيدة العربية، عبر أرقى مستجدات الشكل والمضمون في شعر التفعيلة، بين نزار قباني ومحمود درويش، هو أن في تضاعيف المقاطع الغنائية نستطيع أن نقبض على مقاطع ذروة سوف نحيلها إلى ذاكرة غناء فن الصوت، دون أن ندعي أنها تنتمي مباشرة إليه بل هي تعزز، ما تكلمنا به عن دمج حالة التصاعد في خانة الموشح عبر استعارة التوشيحة، وعبر تعبيرية جديدة لاستخدام مقام الرصد في بناء موسيقي غير مألوف.

.. ففي «أبيات غزل» ذات اللحن التعبيري والمرح في طابعه، اتبع شكل المناجاة المقيدة في مذهبها الذي سيكون ختام مقاطعها الغنائية: «سألتك: هزي بأجمل كف على الأرض غصن الزمان/لتسقط أوراق ماض وحاضر/ويُولد في لمحة توأمان: ملاك وشاعر!/ونعرف كيف يعود الرماد لهيباً؟/إذا اعترف العاشقان!».

.. فهي القصيدة متكونة من ثلاثة مقاطع غنائية فضل أن يحتوي أولها مقطعاً ذروياً بديعاً، وهو مقطع: «وأنت/خلود النبيذ..» يعتمد الجملة الدائرية وصيحة صوتية بعلو حنجرة خالد:

«أتفاحتي أحب حرام يباح؟!/إذا فهمت مقلتاك شرودي وصمتي/أيا، عجباً، كيف تشكو الرياح../بقائي لديك؟/وأنت/خلود النبيذ بصوتي/وطعم الأساطير والأرض../.. أنت!».

..أما في لحن قصيدة: «أغنية حب»، فهو اعتمد على التعبير والدراما على قالب المناجاة، موقفاً إياها على طابع أوركسترالي ضخم احتكم إلى تناسقات موسيقية حيث بنى لحنه على المقام الصغير أو النهوند، لكنه سوف يهفو في لحظة جميلة إلى مقام الرصد في مقطع ينبو بشكل جميل وطروب في آن واحد: «لحبك.. يا كل حبي،/مذاق الزبيب..».

.. أما إذا ذهبنا إلى ملحني فرقة «أجراس» البحرينية، وخاصة أبرزهم خليفة زيمان، فهو أراد اختيار قالب المناجاة في قصيدتين من شعر التفعيلة، لحنت لصوت هدى عبدالله، وهما: «أينما كنت» والثانية: «صابري»، لم تخلوا من الطابع البحري عندما وظف إيقاع القادري بنوعيه فيهما، سواء في مقطع غنائي يؤسس هوية وينجلي في الأول ليعود لحالته السابقة، أو في الثانية عبر مقطع ثان يذهب إلى مناخات الخليج العربي في استعادة ذاكرة اللؤلؤ، إنما سوف نرى أن قصيدة «غريبان - 1984» (رومكو - الكويت) التي اخترت من شعر محمود درويش، ولحنها خليفة زيمان، يعتمد قالب المناجاة، وهي امتداد لفلسفة السرد الموسيقي - كما هو تعبير المايسترو سليم سحاب - التي أسسها في الغناء والموسيقى العربيين محمد القصبجي، فقد قسم زيمان عمله إلى ثلاثة مقاطع كان ثانيها الذي احتوى تلك الصيحة العالية، جاعلاً من صوت كبير يدخل في مسلك أدائي وعر مفيد من تقنية متطورة توازن إصدار الصوت ما بين الرأس والحنجرة: «شعرك سقفي وكفاك صوتان/والآن أشهد أن حضورك موت/ والآن أشهد أن غيابك موتان/والآن أمشي على خنجر/وأغني..».

.. الذي يلفت هو استخدام إيقاع المصمودي، وهو من الإيقاعات المكرسة لفن الموشح، ولم تكن هذه القصيدة وحدها بل هناك لحن آخر وضع لصوت هدى عبدالله في قصيدة: «عندما يسقط القمر - 1990» (النظائر - الكويت) من شعر محمود درويش، التي قدم لحنها جابر عبدالله، توضح معالجة لحنية تستعير في إيقاعها أحد إيقاعات الموشح، وهو المسمى: بالدراج، الذي وقع على آلة الإيقاع المعروفة بالطبل الهاجري، وهو ذو الشكل الأسطواني الكبير الذي يطرق عليه عادة بعصا من الخيزران، فقد بني لحن القصيدة على ثلاثة مقاطع كما لو كان منعكساً ذلك البناء الشعري الهندسي الذي في بيتها الأول وضع القافية داخلية فيما ينتصف ما بين الثاني والرابع التي قافيتهم في نهاية الشطر، شطرة مستقلة، كما تبدو في أول مقطع:

«عندما يسقط القمر/كالمرايا المحطمة

يكبر الظل بينا/والأساطير تحتضر

لا تنامي حبيبتي

جرحنا صار أوسمة/صار ورداً على قمر»

.. حينها سيتدرج اللحن في المقطعين التاليين يحاول أن يصعد الأداء بين سقوط موهوم وقيامة مرجوة، فكأن الثالث سوف يأخذ شوطاً بعيداً ليس فيما يوهم بتوشيحة من خانة ولا بموشح بسبب الإيقاع، بل ثمة طقسنة غنائية تستعيد حال القمر ورمزية الوهج الغرائزي، كأنما الصوت/الحنجرة ينادي الغريزة السماوية، وهذه الاحتفالية الصوتية التي ستعاود غناء المذهب من جديد الذي بدأت به الأغنية غناءها، توحي بأن هموم فن الصوت، ومثله الموشح في حالات مثاقفة أخرى، صارت بعيدة عن بال هذا الجيل الذي لم يشعر بأي عبء يحمله بعد مقترحات منه للبحث في عناصر جديدة فيه، وليس يريد أن يبعد عن ركاب تطوير واختراق أرشيف القصيدة العربية، التي بات فن الصوت لأسباب فنية مستعصية تُوْقفُه في دائرة قَهْر فني - أو الانتحار الفني، إن جاز تعبير - سبَّبتها الصِّيْغَة والقالب الغنائيين، الذين وقع فيهما تماماً كالموشح، فلا عاد ينتمي إلى الحاضر سوى من نافذة متحف الموسيقى العربية.


------------

67 - إن الشعر الفصيح إذا لُحِّنَ وغني قد يُصبح موشحاً مثل: «يا ليلُ، الصَّبُّ متى غده؟» شعر: الحصري القيراوني أو موالاً مثل: «قل للمليحة» شعر: مسكين الدارمي أو مناجاة مثل: «على غصون البان» شعر: أحمد رامي. الأنواع - سحاب، مرجع سابق، ص: 53.
[web:4d6e890fc9]http://www.alriyadh.com/2006/05/20/article155900.html[/web:4d6e890fc9]
 
أعلى