رد: بعد تجربة وجوه قاسم حداد بلوحات محمد العامري وموسيقى الن
صحيفة الرأي الأردنية 2005-02-17 -
احتفالية «أيقظتني الساحرة» للشاعر حداد: رؤية جمالية لتناغم الشعر والموسيقى والتشكيل
عمان - ياسر قبيلات - شهد «جاليري الأورفلي» في السادسة من مساء أول أمس، احتفالية «أيقظتني الساحرة» التي تجاورت فيها ثلاث من أعتق الفنون، في لحظة سمعية ـ بصرية، استدعت الحواس إلى مساحات اشتباك أضاءت في الاتجاهات الثلاثة جوانباً ممكنة وخفية، وأسست فرضيات استقبال مغايرة للجملة الشعرية والموسيقية، فيما أيقظت العين على رؤية جديدة للتشكيل، الذي كان ينطلق ليقدم قراءته الخاصة للجملة الشعرية.
وكان شهد الجاليري نفسه، مساء الأحد الماضي، انطلاقة الاحتفالية، التي تضافرت فيها أشعار الشاعر البحريني قاسم حداد و تشكيل هيلدا الحياري ومحمد العامري، وموسيقي طارق الناصر. ولكن أمسية الأحد لم تكن سوى شرارة البدء، حيث اقتصرت على الجانب الرسمي من خلال رعاية أمين عمان الكبرى م. نضال الحديد لحفل الافتتاح، وافتتاح المعرض التشكيلي المقام، بالإضافة إلى الدفتر الإبداعي الذي أنجزته الفنانة الحياري، وخطّ فيه، على ألوانها، الشاعر قاسم حداد مقاطعاً من قصيدته «أيقظتني الساحرة». أما الشعر والموسيقى، بدورهما المعين في برنامج الاحتفالية، فكان موعده في السادسة من مساء أول أمس، حينما أقيمت الأمسية، التي جمعت فعلاً ما بين الشعر والموسيقى والتشكيل، ليكتمل النصاب الإبداعي المنتظر.
هو الشعر إذن..!؟
الشعر الباحث دوما عن أشكال ممكنة ومحتملة للحرية، لا زال يواصل بحثه، ولا زال ينشد تلك الحرية؛ في البدء، كان الصوت، ثم الكلمة المكتوبة في عهد التدوين، ثم وكأنما لم تطب له الإقامة الصامتة في حضن الكلمة المكتوبة، وحنّ لعهود كان يمارس فيها الفعل، من خلال الوقع الصوتي، فعاد ينشد الصوت. ولكنه لم يتوقف عند ذلك، ها قد يبحث عن حرية في مجاورة الفنون؛ تشكيلاً وموسيقى..!
وجاء هذا التجاور الإبداعي، تأسيساً على قصيدة حداد «أيقظتني الساحرة»؛ بما يعني، إلى حد ما، أن الفنون المتجاورة في الاحتفالية، قدمت إلى جانب صوت الشاعر العميق، قراءات موازية ومغايرة لنصه الشعري. غير أن القراءة الإبداعية، وإن استندت على نص، تمرر في الغالب ما هو من «عندياتها»، وما هو لها، ناهيك عن القراءة الخالصة، وبالذات بأدوات مختلفة، للنص الشعري، التي هي في نهاية المطاف اجتهاد إبداعي خاص. وانطلاقاً من هذه المساحة، بالذات، أسست هيلدا الحياري ومحمد العامري، مشهدهما البصري برؤيتين لم تتعسفا على هويتهما الفنية، ولم تغيبها؛ وكذلك الحال، بالنسبة لطارق الناصر الذي راود الارتجال، في قراءة موسيقية، لم تعتمد على النوتة بقدر اعتمادها على النص الشعري، الذي نهضت أحرفه فوق مفاتيح البيانو، بديلاً عن مدونات العلامات الموسيقية.
العامري: قراءة المفردات
وقدمت الاحتفالية في جانبها التشكيلي ثلاث قراءات؛ ففي جانب أول كان محمد العامري، يضع للعين مهمة البحث عن مفردة المرأة ـ الساحرة ـ الجنية، التي أخفاها في تداخلات اللون وتجاوراته، وفي تشكيلها وفق حركة تنخفض فيها مستويات التباين والتناقض مع حركة التشكيل المحيط، مما جعلها في خفاء بالنسبة للنظرة القريبة، وبحاجة للاكتشاف من زوايا النظر الأبعد.
وجاء العامري التشكيلي منطلقاً من مفردة المرأة الساحرة، ولحظة القصيدة التي تسجل في تكرار أسس لها معماراً، وشدها إلى لحظة البداية واستعادتها مراراً لغايات تمرير قول مختلف ومؤتلف، في آن. وعلى نسق حضور مفردة المرأة الساحرة الجنية، الوحدات المتكررة للتأسيس للبناء الشعري، قاد العامري ريشته، من لوحة إلى أخرى، لتوظيف المفردة، وعكس لحظة البداية المستعادة، لغايات تأكيد حضور البناء الشعري، وتوظيفه كناظم يشد اللوحات بعضها إلى بعض.
الحياري: دفتر إبداعي
وقدمت التشكيلية هيلدا الحياري قراءتين، الأولى من خلال اللوحات، والثانية من خلال الدفتر الإبداعي الذي رسمته، وخط فيه قاسم على ألوانها، مقاطعاً من نصه الشعري؛ وفي هاتين القراءتين تراوحت الحياري ما بين التمسك بمفرداتها الخاصة، والانفعال بالنص الشعري، ما جعل في تصفح الدفتر الإبداعي، والمقارنة ما بينه وبين اللوحات ضرورة لاكتشاف قراءتها الخاصة للنص.
تحققت قراءة الحياري، في اللوحات كما في الدفتر الإبداعي، إلا أن هذا الأخير الذي حمل بوضوح انفعالها بالنص الشعري، قد انطوى على مفاتيح للعثور على النص في اللوحات؛ إذ أن القراءة المقدمة فيها، تأتي على شكل استجابة لمقتضياته، وليس إفصاحاً عنه، أو تقديماً لمحمولاته، أو عكساً لمبناه أو معناه، أو مفرداته.
وحملت لوحات الحياري، في أبرز مساحاتها، عودة إلى لحظة كان فيها تفكير الفنانة الإبداعي، واقعاً تحت سيطرة اللون والشكل الأثيرين لديها. ولكن من عرف لوحات الحياري، وخبر التشكيل الذي يحفل بالكائنات الماقبل جنينية، والتي تؤسس بصرياً على السطح، بأحجامها الصغيرة المتفاوتة، إمكانيات لتمرير الألوان الخالصة، في معادلة تضع اللوحة وعناصرها في علاقة مستوحاة، من السجاد ونقوشه. إلا أن الحياري في لوحات الاحتفالية، تميل إلى تحرير سطح اللوحة من هيمنة هذه الأشكال؛ أو أنها، في النماذج الأخرى، التي لم تأخذ مساحات أكبر، تقدم نماذج لأعمالها الأخيرة، التي مالت فيها إلى السيطرة على اللون، بإطفائه، وعلى الشكل بتقنين عناصره.
الناصر: ملكة الارتجال!
شاءت قراءة طارق الناصر الموسيقية، أن تكون في تداخل بنيوي مع النص الشعري، فعدا عن المواكبة المباشرة للنص أثناء قراءته، جاء ارتجال الناصر ليبني علاقات متنوعة مع قراءة الشاعر، من جهة، ومع نصه الشعري من جهة ثانية. وقامت هذه العلاقات، في جانب منها، على التعامل مع المساحات البيضاء التي تقتضيها القراءة، ومحاورة إلقاء الشاعر في مواضع معينة، والانسحاب أمامها في مرات؛ مثلما سارت، في مواضع أخرى، على استدعاء صوت الشاعر، أو التهيئة للقفلات الداخلية.
وسار ارتجال الناصر، على هذا النسق، في محاولة تتجاوز كونها مجرد إقامة العلاقات مع صوت الشاعر وإلقائه، إلى التأسيس لقراءة أكثر عمقاً للنص ذاته.. النص الذي حل مكان النوتة الموسيقية، فوق مفاتيح البيانو. ولم تلبث أن وجد هذه القراءة المنشودة مداخلها، في القرار الذي ألح في نقش حضوره، في برهات الصمت وبالتناغم مع نبرة الصوت العميق، الذي حمل أسى عتيقاً، تلجلج فيه كرنة معدن ثمين؛ وبالاعتماد على الجذور الشرقية للآلة، واستنطاقها، في قراءة سارت بالتوازي مع النفس الأسطوري الذي نسجته الجملة الشعرية، وبوعي أن شعر قاسم حداد، ينهل من المخيلة الخاصة، وينهج في تعاطيه مع الأسطوري، استدعاء الموروث والجذور الثقافية.
مغامرة مع الشعر
وهيأت البدايات المتكررة للوحدات الداخلية في القصيدة، للناصر العثور على إيقاعه، والاهتداء إلى قراءة مرتجلة، جاءت على شكل مقاربة أولى، وضعت أساساً لعمل موسيقي قد يأخذ الناصر في مغامرة مع الشعر والكلمة التي يتجنبها، عادة، في أعماله الموسيقية. فقد يكون في الانتقال من البحث في الهواجس الداخلية، إلى قراءة هواجس النص الانفعالية والجمالية، مساحات ممكنة، ومقاربات محتملة، للتعبير الموسيقي، وللانطلاق إلى آفاق جديدة، وتقود إلى العثور على الصوت الخاص، في لحظات المشترك الإنساني والإبداعي، وليس في الخاص الانفعالي والمعرفي، وحسب.
سجلت الأمسية، ما بين إلقاء الشاعر وأداء الموسيقي، واحدة من أفضل لحظات التناغم ما بين لونين إبداعيين؛ وبالنسبة للشعر والموسيقى، فقد تجاوز هذا الحضور المشترك، مجرد التجاور إلى لحظة عناق دافئة، قدمت رؤية لصيغة جمالية، تجمع ما بينهما، في مبررات موضوعية وإبداعية، من حيث إنشاء نص جديد يؤسسه اجتماعهما. ولن يكون مفاجئاً، أن تلح التجربة على صاحبيها (حداد والناصر) في التفكير بالوصول بها إلى صيغتها النهائية، التي بدت ـ على أية حال - قريبة، وفي متناول القريحة.
النِصاب الابداعي
جاءت قراءة الشاعر التي رفدتها فنون وإبداعات أردنية، أعادت إليه وإلينا، من خلاله، المشاعر الدافئة، التي يحملها حداد تجاه مواطننا الأردني عبد الحميد المحادين، أستاذه في صباه، وأثناء تلقيه تعليمه الأساسي في مدينة المحرق، وأول من رعى موهبته الأدبية الفتية في الستينات، والذي لا يغيب عن أحاديثه الخاصة، ولم يغب عن الحضور في كتابه: «ورشة الأمل»، الذي يقدم فيه صورة شخصية لمدينته الأم.
وتركت قراءة الشاعر المأخوذ بالمغامرة، وراءها إيقاعاً يتردد، وعالماً مسكوناً، تؤثثه لغة خاصة، نسجت تفاصيلها بمفردات غنية، تخاتل المعنى منفردة، وتؤديه في اجتماعها. وما بين سحر الكلمة، وألق الشعر، تواصل الساحرة حضورها في القصيدة، وتنطق بالحكمة:
«أوقفتني الجنية الزرقاء في الرؤية
وقالت لي:
لا تكلمهم إلا رمزاً،
ففي ذلك نعمة لهم، ورحمة عليك!»
قدمت الأمسية محاولة جديدة في تجاور الفنون؛ وقبل ذلك، محاولة في إطار تهيئة الروح ولحظتها للجملة الشعرية، بعيداً عن الطقسية المباشرة، والفجة في الغالب. وتوافر لها ثلاثة عناصر مدتها بالقوة: صوت قاسم العميق بما فيه من رنة أسى، والقصيدة التي حفلت جملتها بالقوة التي تذهب في اتجاهات متعددة، والتي انطوت على قابلية كبيرة في التحول إلى وحدات مستقلة، تستدعي بعضها البعض، لدى القراءة، وقدرات طارق الناصر في الارتجال.
إذن، في السادسة من مساء أول أمس، اكتمل النصاب الإبداعي في «جاليري الأورفلي»، باكتمال حضور التشكيل، بحضور الشعر والموسيقى، فأيقظت الساحرة نائماً غفا، أو مستفيقاً أخذته الغفلة باعتياد الأشياء، والكلمات، والأشكال، والأصوات!