تجربة الشيخ .من ألوان الطيف السياسي في البحرين

وجوه

Active member
صحيفة الأيام البحرينية الثلاثاء 18 يناير 2005 م
ألوان الطيف السياسي‮ ‬والأغنية الملتزمة في‮ ‬البحرين

بقلم :محمد البنكي


كان للاغنية السياسية وظيفة ماثلة وراهنة في‮ ‬اوائل السبعينات اذ كانت عنصر مواجهة مع الضبط السياسي‮ - ‬الاجتماعي‮ ‬السائد،‮ ‬يسقط أحد العمال في‮ ‬معمل الصهر فتنطلق اغنية،‮ ‬تستعاد ذكرى أحد أبطال المظاهرات فيكون التعبير بالكلمة الموقعة شكلا من أشكال الاندماج في‮ ‬الحدث‮. ‬هكذا اقتبست نصوص شهيرة لمحمود درويش وسميح القاسم ونجيب سرور وغيرهم،‮ ‬واستدعيت قصائد من مراحل الالتزام المؤدلج في‮ ‬شعر علي‮ ‬عبدالله خليفة وعلي‮ ‬الشرقاوي، ‬وانخرط كتاب جدد،‮ ‬في‮ ‬حينها،‮ ‬لتقديم الكلمة المناسبة كيوسف الحمدان وخالد الشيخ واحمد العجمي‮ ‬وغيرهم‮.‬

كانت الثقافة بمجموعها،‮ ‬او على الاقل بالكثرة المتكاثرة الاغلب منها،‮ ‬تأتي‮ ‬من صفوف اليسار،‮ ‬وتتحرك في‮ ‬مساحاته،‮ ‬وبقيت الاغنية الملتزمة شأنها شأن الكتابة مرهونة بحيوية اليسار ومواقع نفوذه،‮ ‬من هنا انطلق احمد الحداد بأغاني‮ »‬البنجري‮« ‬و»مشموم وين الشعر‮« ‬و»قالوا شبابك‮« ‬وغيرها من القاهرة،‮

وجاء صوت محمد‮ ‬يوسف بـ‮ »‬عذاري‮« ‬و»الايام عساها بخير‮« ‬و»الله‮ ‬يا خيرة بلدنا‮« ‬من الكويت،‮ ‬وكذلك خالد الشيخ بـ‮ »‬آه‮ ‬يا سلطان‮« ‬و»أوال‮« ‬و»أخي‮ ‬يا أيها الانسان‮«‬،
‮ ‬وانطلق سلمان زيمان وتوالت الاصوات والتجارب فخرج محمود حسين بأغاني‮ ‬العمل والمهن ويعقوب‮ ‬يوسف بـ‮ »‬وطني‮ ‬اوال‮« ‬وفرقة اجراس بتوفيق زياد وبعض الاسماء الاخرى‮.‬

في‮ ‬سنوات لاحقة ‮ ‬انحسر اليسار وانكشف‮ ‬غطاؤه الذي‮ ‬يغذي‮ ‬التجربة،‮ ‬واستجاب سوق الاغنية اكثر فأكثر لشروط الانتاج الجديدة،‮ ‬شروط جارفة همشت الاغنية الوطنية بل وذهبت لايجاد اغنية اخرى اسبغت عليها الاسم نفسه فكانت موجة‮: »‬انا الخليجي‮«‬،‮ ‬و»طاق طاق طاقية رين رين خليجية‮« ‬وغيرها،‮ ‬عتبة سياسية جديدة تقلب المفاهيم وتعيد مفهوم‮ »‬الوطني‮« ‬الى نقطة الصفر،‮ ‬ولم‮ ‬يكن لدى قوى المقاومة بديلا تقوى على طرحه،‮ ‬اذ ظلت النوستالجيا الاسيانة مهيمنة في‮ ‬حين انزلقت بعض التجارب على استحياء الى الابداع المتاح في‮ ‬ظل سياسة المرحلة السائدة‮.‬ غياب المشروع الفني‮ ‬لدى الجبهات والتنظيمات السياسية ساهم في‮ ‬التشظية والتفتيت لحزمة الاجتهادات التي‮ ‬بدت متناغمة في‮ ‬لحظة اسبق،‮ ‬لم‮ ‬يحدث هذا في‮ ‬مجال الاغنية فقط ولكن ايضا في‮ ‬الادب والمسرح ومختلف ضروب الابداع،‮ ‬واذا كان الصدام الادبي‮ ‬قد عبر عن نفسه من خلال سجاليات عديدة تقاطبت حول بيان‮ »‬موت الكورس‮« ‬الذي‮ ‬اصدره قاسم حداد و»أمين صالح‮«‬،‮ ‬فإن الساحة الغنائية لم تجد الا اللغط وتبادل تهم التخوين والتسقيط وحروب النميمة التي‮ ‬دفعت الى تكتيكات‮ »‬نقدية‮« ‬تنصر التجربة الفلانية على التجربة العلانية،‮ ‬وتسبغ‮ ‬حلل التمجيد المؤدلج على هذا الفنان الملتزم‮ (‬ملتزم حزبيا ام فنياا؟‮) ‬دون ذاك،‮ ‬وتمرر على مفرزتها الجميع كي‮ ‬تصنف هذه الفرقة في‮ ‬ذروة الفن التقدمي‮ ‬وذلك الفنان في‮ ‬الصفوف الخلفية،‮ ‬والثالث في‮ ‬منطقة رمادية تجعلها نصف راضية عنه ونصف ساخطة،‮ ‬في‮ ‬الان الذي‮ ‬يكون الالغاء من نصيب ثلة من رفاق الدرب الاول لان تجاربهم الجديدة ترصد من زاوية النكوص والانتهازية‮! ‬وقد اسفرت هذه التحليلات عن حسابات تقييم‮: ‬ربح فيها من ربح وخسر فيها من خسر،‮ ‬الى ان جاء‮ ‬يوم تبين فيه للجميع ان الخسارة الكبرى انما حاقت بالاغنية السياسية بمجموعها ومختلف الوان طيفها‮.‬ لقد كانت انحيازات الروح الحزبية التي‮ ‬حاولت ان توجه او تنظر مطبوعة بـ‮ »‬براءة‮« ‬الانتماء في‮ ‬البداية،‮ ‬لكنها تحولت الى سلطةشرسة بعد ذلك،‮ ‬ولا‮ ‬ينبغي‮ ‬لتوالي‮ ‬السنوات وتراكمها اليوم ان‮ ‬يحجب عنا ان من بدأ هذه الاجتهادات الفنية،‮ ‬او من حاول ان‮ ‬يدعم وجودها سواء بسواء لم‮ ‬يكونوا سوى طلبة شباب متحمسون في‮ ‬مقتبل العمر تصوروا في‮ ‬وهلة شحن جارف ان المعرفة‮ ‬ينبغي‮ ‬ان تخاض بالروح والدم فداء للفن من اجل الانسان،‮ ‬وكانت الانا متوارية لكنها ابدا لم تكن‮ ‬غائبة،‮ ‬صحيح ان الصوت الجماعي‮ ‬يغطي‮ ‬على النبرة الفردية،‮ ‬لكن طاقة الشباب كانت تنشد التحقق الشخصي‮ ‬ايضا،‮ ‬ولم تترك نزوعات السلطة الايديولوجية التي‮ ‬راحت تختزل وتقصي‮ ‬وتدني‮ ‬مراحا لهذا الشعور المشروع‮.‬ ارادت التنظيمات والحركات ان تكون الاصوات الفنية وسيلتها لمخاطبة الناس والتبشير بما تؤمن به من قضايا ومواقف،‮ ‬كان حمل الهاجس السياسي‮ ‬اكبر من اي‮ ‬شيء آخر حتى ان من شجعتهم التنظيمات على الالتحاق بمعاهد الموسيقى في‮ ‬الكويت والقاهرة توقعت منهم ان‮ ‬يظلوا اوفياء للالتزام السياسي‮ ‬بالنمط الذي‮ ‬تحدده،‮ ‬ومن لعبت في‮ ‬رأسه جرثومة الموسيقى بأكثر مما‮ ‬يجب وجد نفسه بشكل طبيعي‮ ‬خارج اطار الفرقة الفنية التي‮ ‬بدأ معها‮.‬ مثل هذه المناخات التي‮ ‬اشاعتها الثقافة الحزبية السائدة جعلت الرغبة في‮ ‬التعبير اهم ضمن شكل التعبير،‮ ‬وهذا ما جعل التجربة الغنائية والموسيقية‮ ‬غير قادرة على انجاز بحثها الجمالي‮ ‬الخاص،‮ ‬لقد تأثرت التجربة اكثر ما تأثرت بتجربة الاغنية السياسية في‮ ‬لبنان لكنها لم تستطع ان تطرح بجدية كافية قضايا بحثية تنم عن هواجس ومغامرات فنية واغلة كما طرحت الاغنية السياسية اللبنانية لم نشهد اسئلة حول علاقة هذه الاغنية بالآلة الموسيقية الشرقية والغربية مثلا،‮ ‬ولم نشهد تنظيرا لحدود اعتماد الاغنية على الصوت الجماعي‮ (‬الكورس‮) ‬او الفردي‮ ‬الكلمة الفصحى او العامية الكلمة او الموسيقى،‮ ‬كأن الانطلاقة قد تدججت بالشعار وحده،‮ ‬أما المعرفة التقنية والمقول الفكري‮ ‬والبحث الفني‮ ‬فلم‮ ‬يكن أيا منها شاغلاً‮ ‬للكوادر الحزبية التى انفعلت بالكلمات ولم تنتبه للموسيقى إلا عبر ايقاعاتها التهييجية وما تبثه من شعور مشترك فى حفلات اتحادات الطلبة بالكويت والقاهرة وكلية الخليج وفى المؤتمرات السنوية‮.
خالد الشيخ حاول منذ لحظة باكرة،‮ ‬أن‮ ‬يشتغل خارج إطار التابوهات والمقاييس التى تفرضها العقلية الحزبية‮. ‬لعبت الموهبة الفنية دوراً‮ ‬كبيراً‮ ‬فى تحرير الشيخ من املاءات كثيرة وبذكاء اختار أن‮ ‬يشق طريقه الى عالم الاحتراف بدلاً‮ ‬من الهواية‮. ‬احتضن عوده وأمعن فى المراس والتوليف‮. ‬العفوية باتت اقتداراً‮ ‬فى مراحل تالية‮. ‬ولما لم‮ ‬يجد من‮ ‬يأتمنه على بعض ألحانه،‮ ‬لم‮ ‬يتورع فى طرح نفسه كمؤد‮ ‬يسجل الأشرطة ويدخل لعبة النجومية والانتشار‮. ‬كان لدى خالد الشيخ مزايا افتقدها الآخرون،‮ ‬و بعضهم على الاقل ثقافته الفنية كانت فارقة‮.‬ وعلاقته بالتراث صارت أكثر رحابة لم‮ ‬يعد محمود درويش أو القصيدة النضالية فى مركز الالهام وحدهما،‮ ‬اتسع الفضاء لابي‮ ‬الحسن الششتري‮ ‬ومالك بن الريب وابن زهر وابن قزمان وغيرهم‮.‬ ودفعت الحساسية الفنية الخاصة الى نشدان علاقة جديدة بين الكلمة والموسيقى‮» ‬حتى خالد الشيخ اختبر اختيارات جديدة بدت استفزازية على صعيد الكلمات‮.‬ المؤسف ان العقلية الحزبية،‮ ‬بمعاييرها الصارمة،‮ ‬تنصلت من الشيخ،‮ ‬ولم تكتف بذلك،‮ ‬بل سرعان ما أعملت مفارزها وتصنيفاتها نابذة التجربة الفنية الأبرز بين صفوفها الى خارج دائرة النماذج التى تسهر عليها،‮ ‬هنا ربما تدخلت نزوعات شخصية لدى خالد الشيخ نفسه لتسهم فى اكمال الاستدارج الى مغازلات المؤسسة الرسمية وشروط السوق الاستهلاكية ومزيج التسويق المطلوب فى شركات الانتاج،‮ ‬وبقية الحكاية تقع خارج حدود ما‮ ‬يقتضيه هذا المقال‮.‬

تجربة فرقة أجراس برزت أمام الجميع بوصفها التجربة الأكثر إعلانا لالتزامها واتصالها بذاكرة النضال اليساري‮ ‬فى حلقاته المترابطة‮. ‬لقد بدأت التجربة من‮ ‬يمانيات سلمان زيمان فى المحافل الطلابية واستوت على سوقها مع تجارب لأعضائها الذين اظهروا جدية فى دراسة الموسيقى دون ان تحول هذه الدراسة عنه انخطاف الأبصار امام ما‮ ‬يعنيه التغني‮ ‬بأشعار لمحمود درويش أو سميح القاسم أو أحمد الشملان‮.‬ فالذين درسوا عادوا من معاهدهم بعد فترة وانسلخ منهم من انسلخ عن الفرقة وبقي‮ ‬فيهم من بقي‮ ‬إلا ان المرحلة الجديدة التى قادها خليفة زيمان‮ (‬مع بقاء سلمان كرمز أبوي‮ ‬للتجربة‮) ‬قدمت مزيداً‮ ‬من الحرفية والدربة التقنية دون ان‮ ‬يعني‮ ‬ذلك بالضرورة بروز تحول واضح‮ ‬يتجه لصوغ‮ ‬فكر موسيقي‮ ‬وإحداث رؤى مقترحة جديدة تتحاور مع الأمزجة المتحولة لجمهور الاغنية‮.‬ ولعل المتتبع‮ ‬يساوره انطباع دائم بأن تجربة الفرقة ظلت مخنوقة وملجومة داخليا لأنها لم تتخلص أبداً‮ ‬من فقه المهاد السياسي‮ ‬الذي‮ ‬رعاها وتماهت فيه‮.‬ لقد هزم الارتباط الايديولوجي‮ ‬الضيق‮ »‬أجراس‮« ‬مرتين‮. ‬مرة حين أودى بها الى اختيارات على صعيد الكلمات المغناة بدا ان الاعتبار المضموني‮ ‬يتقدم فيها على الشرط الجمالي‮ ‬بمراحل ومرة أخرى حين لم‮ ‬يهيئ لها الظرف الانتاجي‮ ‬الملائم‮.‬ فقد كان من المفارقة بالغة الشدة ان تخلص الفرقة لمقاييسها الايديولوجية الصارمة ثم توطد العزم على فرض نفسها من خلال شركات الانتاج الفني‮ ‬المنطلقة من حاجات واستجابات مغايرة تماما‮.‬،‮ ‬لقد وضعت هذه التناقضات الصارخة التجربة بكاملها على مفرق طريق كان من المثير للتأمل فعلا ان تشكو الفرقة،‮ ‬فى مرحلة من مراحلها،‮ ‬من‮ ‬غياب الدعم الرسمي‮ ‬والاحتفاء الاعلامي‮ ‬المؤسسي‮ ‬على الصعيد العام بينما تهجس فى جوهر ما تصبو اليه الى المغايرة والمقاومة وتجسيد النموذج المختلف‮.‬
وليست الأزمة التى أنتهى اليها الطرح الحزبي‮ ‬مع نظرته لتجربة خالد الشيخ،‮ ‬أو المضايق التى أورد اليها فرقة أجراس هي‮ ‬نهاية المطاف فى تتبع أثر السياسي‮ ‬فى الفني‮. ‬فلربما وجدنا فى تجربة الفنان محمد‮ ‬يوسف مثالاً‮ ‬آخر‮.‬ لقد جرى تقديم محمد‮ ‬يوسف كرمز لأشواق النفي‮ ‬التى تحول دون ضمة الأم الرؤوم،‮ ‬رمز لفن مصهور فى العذاب والتطلع للغد الأجمل‮.‬ وجرى تمرير حكاية جميلة تزيد من وهج حضور المغني‮ ‬بين مشاعر الناس حدث ذلك على سبيل الأسطرة المماثلة لقيود مجيد مرهون التى توقع الالحان قبل ان تعزف فى موسكو وبلاد اشتراكية أخرى‮. ‬ولكن هذا الابراز والاعلاء ظل مرتهنا لمسار محمد‮ ‬يوسف على الصراط المستقيم‮.‬ وسرعان ما انعكس الى الضد تماما‮ ‬يوم ان‮ ‬غير محمد‮ ‬يوسف قناعاته،‮ ‬فاذا بتصريحات رفاق الامس الممجدة فى التجربة هي‮ ‬المعاول الأولى فى طمس أي‮ ‬مصدر من مصادر التميز والاستحقاق‮!‬
لن أمضى فى الاسترسال هنا،‮ ‬مفضلا ارجاء بعض التأملات والملاحظات الختامية الى فسحة تأتي‮ ‬بعد مقال آخر‮ ‬يسلط الضوء على حال‮ »‬النشيدة الاسلامية‮« ‬السياسية مع فريق آخر من الوان الطيف السياسي‮ ‬فى البحرين،‮ ‬لنبين عبر المقارنة المتوازية طبيعة المعادلة التى حكمت علاقة السياسي‮ ‬بالفني‮ ‬فى كل الأطياف على اختلاف رؤاها وآفاقها ودرجات توظيفها للفني‮ ‬والجمالي‮ ‬فى خطابها السياسي‮.

Albanki002@Hotmail.com
 
مقال أعجبني كثيراً عندما قرأته في الجريده وتمنيت ان ينقل للموقع
ليستفيد منه محبي التجربة في الخارج،

شكراً وجوه ..
 
أعلى