أشعر بأني أعرف قاسم حداد منذ يوم مولدي حتى قبل أن ألتقيه، ولكني بدأت أتعرف عليه فعليا في دولة الكويت أثناء دراستي الجامعية في أواخر السبعينات. فقد شعرت بأني منجذب له من خلال كتاباته و رؤية الآخرين له حيث كان ينتقد لشعره ولفكره. فنصوصه كانت تثير الكثير من الانتقادات والاتهام بأنها غامضة ومشوشة خصوصا لدى مجموعة الطلبة التي كانت تعتنق فكر سياسي يطالب بضرورة أن يكون الفن من أجل الجماهير، في حين كانت نصوص قاسم تنتمي لمدرسة الفن للفن و كان في نصوصه كاسرا للحدود والحواجز والأسقف.
وتجربتي مع تلحين نصوصه بدأت قبل أن ألتقية شخصيا فقد قمت بتلحين قصيدة باسم إلى س الذي يذكر فيها :
إلى س
قال لي
وانثنى
عبرت جميع المقابر
امشي وراء الضحايا أنا
وعندما عدت إلى البحرين تعرفت عليه شخصيا، ثم قمت بتلحين مجموعة نصوص من ديوان قلب الحب في بداية الثمانينات و اذكر أن احدها تحتوي عبارة : كلهم قالوا ولكن أن لا فائدة، فعندما ناقشت قاسم في العبارة ذكر لي بأنه لم يحب مفردة فائدة فيها وبأنه لا يعرف كيف كتبها ولم تعجبه هذه المفردة لما فيها من إشارة إلى بنوك واستثمار.
كما إن لي تجربة مشتركة مع قاسم حداد ومع المخرج عبد الله يوسف لنص ديوان يمشي مخفورا بالوعول، عبارة عن مقطوعات موسيقية من تأليفي على آلة البيانو ومقاطع غنائية بصوتي ترافق قراءة عبد الله يوسف للنص، ولكنها لم تخرج للنور كما إني لا امتلك أي تسجيلا لها ولا أعلم حتى الآن أين ذهبت تسجيلات هذه التجربة.
وبعدها توطدت علاقتي الشخصية بقاسم أصبح يمثل لي مرجعا مهما، فقد كنت أتحاور معه في الكثير من الموضوعات الثقافية، والسياسية، والفكرية، كما كنت أتناقش معه حول تجربة مؤلفي الكتب التي أقرأها، و كان نقاشي معه يتيح لي فرصا للتعرف على الكثير من الكتاب والمفكرين. وقد كان قاسم ومازال دائما متابع مهم لتجربتي الفنيةلطالما اعتمدت عليه كثيرا ومازلت في نقد ها فهو ناقد سليط اللسان وحاد.
لوجوه النار.. الحصار.. لا للفشل
بهدوء اقتحم وجوه الآخر.. فكانت غربته والدهشة جمرته الخفية.. بصمته.. لست البريء منها أبداً.. كل الوجوه..التي أخذت استداراتها بلا منازع.. الريشة.. الكلمة..الصوت.. الصدى.. هل بقى من حضور الآخر غير نتف.. تتوازى وتصفر مع الريح.. بين أوتار العود.. ودف الكمنجة.. في أياويد الزمن الغائبين.. وفي نيرانه الملتهبة.. أهي النبض .. أهي استكانة الخوف .. الهزيع الأخير .. الوجوه التي تطايرت أبوابها ..
أفصلُ عمل وجوه عن أي عمل قمت به، صحيح، أنه في الأخير موسيقى، ووضعنا فيه غير متساوي، لكن الموسيقى هي الفن الوحيد الذي تقاطعت معه الفنون الأخرى. وجوه هي بالضبط .. هي ما وراء الحدود التي وصلتُ لها، كان قاسم حداد دائماً وراء الحدود في كتاباته وحياته وكل ما يشكله، يكفي إنه بدأ مشروعه بكلمة (لا للفشل)،: "لا" التى ..كان يخافها قاسم، لم تكن ستصدر مني لو صدرت، لأنني لم اكن أريد أن انخرط في المشروع أو أنني لم اكن أعرف كيف اشتغل. لكنها لو صدرت فإنها ستكون من منطلق أنني لا اعرف كيفية الاشتغال بحرية. حقيقة أنا لم أتعود ذلك. كنت أتقن ممارسة مهامي من خلال نصوص مقيدة ومحددة أمامي.. يوضع أمامي نص موزون ومقفى في العادة. شغل بهذه المواصفات " أدوس فيه على طول وأطلع لك من مخبأي مليون لحن " لكن انك تعطيني نصا مثل نصوص قاسم وتطلب متى أن أجرب فهنا الخطورة، لأنني لا اعرف كيف أمارس حريتي ولذلك لاحظ الشباب أنني منذ البداية كنت محتاجا إلى " دقة وراء دقة "، وفي منتصف العكوف على العمل بدأت استمتع اكثر لأنني اكتشفت أن هذه الحرية تفسح أمامي في الإمكانيات على نحو يجعلني استعيد كلام النص بلحن جديد في كل مرة.
عندما جاءني النص و شاهدتُ اللوحات في مرسمها، أيقنتُ أن هذا العمل بحاجة إلى مؤلف موسيقى، وليس بالضرورة أكاديمي من حملة الشهادات، لكن من المحتم لديه إمكانية الخلق، والإجابة على الكيف (كيف يعمل موسيقى؟)، من غير كلام. تجربتي مع الكلمة غنائية وإن كنت دائماً ما اشتغلت ضد الكلام، لكنني أميل دوماً للصورة الذهنية أكثر منها المجردة التي تقدمها الموسيقى من غير كلام، آخذاً في اعتباري الصور الذهنية لشعر قاسم حداد غير الموجودة في الذاكرة، وجوه هي لغة جديدة، من البساطة تلبيس اللحن والموسيقى عليها، لكن المبتغى كان في خلق موسيقى من خلف ذاك النص، أن تنزع النص فتبقى لك الموسيقى، هذا هو عملي التأليفي الذي مارسته في الوجوه، فكانت عملاً لما وراء الحدود التي وصلتها والتي دائماً ما أطلق الحداد عليها "حدود المجهول..الجميل..غير المعروف"، لم أعرفه من قبل، إلا مع قاسم حداد، عندما انتهينا من العمل وسمعناه، تذكرت قول أحدهم (الله من قام بهذا العمل..) لحظتها كنتُ وصلت للمنطقة التي لا يوفرها الواقع، هي مرحلة اللاعودة للأنا ..أللا ارتباط بالواقع، الانتقال أو الانتشاء .. الصوفية .. التجلي، التوحد بعيداً عن الشعور بالواقع المعروف.
أتدركون..تجربة قاسم حداد الحياتية العريضة في الوطن، أو في العالم، كشفت لي عن إنسان آخر أنا لم أعشه، عن حلم التعرف على ذلك الإنسان، الحر من الأشياء، فما أمامك من نص لا يفرض عليك شيء..لا يقترح، لا يثقل على كاهلك، تستطيع قرأته كيفما تشاء .. أعلى إلى أسفل .. من أسفل إلى الأعلى، أي الطرق التي ترتئيها، هذا هو قاسم .. نص كل الوجوه الصغيرة التي عرفها واحداً.واحداً...، متعة الموسيقيين الذين تشاركوا في هذا العمل هي انعدام معرفتهم بالموضوع، عندما أسمع وجوه مراراً يصيبني الذهول، أنا لا أصدق أنني ساهمت بهذا العمل لماذا؟ لماذا؟ .. هل تدركون شيئاً .. اللغة العربية لها قدسيتها، تثير في الذاكرة في الذهن حالة من الانتشاء، تأخذك للمنطقة التي تبتغيها الموسيقى والكلمة، التي لا يوفرها أي فن من الفنون الأخرى، هي ذي المساحة التي لا يمتلك المرء فيها من الإمساك بذاته.،
أهم ما يميز وجوه بنظري هو أننا كلما توغلنا فيه كلما ازدادت حريتنا.
نصوص قاسم حداد ساعدتني كثيرا كما إنها أدخلتني في تحد كبير لأنني ضد عبودية النص وأحلى ما في التجربة أن قاسم حداد أضاف لي الكثير موسيقيا وجعلني أحس بطعم الحرية في ممارسة العمل الفني.
وبعد تجربة وجوه التقيت قاسم في تجربة ثانية من خلال وضع موسيقى لنص مسرحية أخبار المجنون الذي اخرجها الصديق خالد الرويعي عام2005م ، وهو من وجهة نظري عمل يعتمد على التقليدية في التناول الموسيقي للنصوص ، من حيث الوضوح و الاعتماد على تكثيف الجو الدرامي و توظيف الكورال والأصوات الفردية ، ولكن استطاع محمد حداد أن يقدمها بطعم موسيقي جميل ومميز ، وهو يعمل حاليا على إعادة تنفيذ هذه الأعمال لكي أقدمها بشكل أفضل مما قدمت به في المسرحية وذلك ضمن أعمال ألبومي القادم للعام 2007م.
خالد الشيخ
15 مارس 2006م