عرضت قناة العربية يوم الجمعة 12 يناير 2007 الجزء الأول من برنامج روافد مع الشاعر قاسم حداد إليكمتفاصيل الحلقةكما نشرت في موقع العربية
اسم البرنامج: روافد "الجزء الأول"
مقدم البرنامج: أحمد علي الزين
تاريخ الحلقة: الجمعة 12-1-2007
ضيف الحلقة: قاسم حداد (شاعر من البحرين)
قاسم حداد: يعود اسم المحرّق، كما أحب أن أذهب إلى أحد ملوك الحيرة، الذين بسطوا حكمهم على هذه المنطقة قبل الإسلام، ويدعى المحرَّق على وزن المفعَّل بالتشديد وكسر العين لاشتهاره بالتخلص من خصومه السياسيين بإحراقهم. لا يجبر هذا التفسير أحداً لكن ليس ثمة اقتراح تاريخي أعرفه يروق لي شعرياً غير هذا التفسير، ربما كان في هذا نزوع متماهٍ للاتصال بالشاعر طرفة بن العبد، عبر هذا السديم التاريخي الذي اخترقه طرفة مثل كلمة الشعر الباهرة، عائشاً منذ ملوك الحيرة حتى حيرة الملوك، حيث ما يزال. فمنذ أن وعيت في هذه المدينة شعرت بأنها قائمة على ما يشبه التنّور الجحيمي المتواصل الالتهاب والتحوّل.
ذاكرة المكان لدى الشاعر
[أحمد علي الزين وقاسم حداد يسيران في حي قديم وحارة ضيقة]
هذه حي بوخميس من الأحياء اللي كتبت عنها في ورشة الأمل واللي عشت فيها وتربيت فيها، أحياء صغيرة متداخلة كثيراً يعني.
أحمد علي الزين: أدّيش عمرها المناطق هون تقريباً؟
قاسم حداد: يعني 200، 300 سنة.
أحمد علي الزين: والله؟
قاسم حداد: إي. هذا البيت بيت العائلة هاي المدخل، طبعاً الأبواب تغيّرت كانت الأبواب الخشبية القديمة وكذا فيه صور لها قديمة في هالمنطقة.
أحمد علي الزين: كان يقرأ عن ابنته طفول واحدة من قصائده ويسأل: ماذا يفعل الشعراء بأحلامنا الواهنة؟ قاسم حداد يستقبلك بفاتحة الشعر في دارته في البحرين، ثم يأخذك إلى مصادر الشعر والحنين إلى المحرّق، البيوت القديمة والذاكرة، مكان الولادة، مكان الشقاء الأول، حيث بدأت الحكاية والحكاية ورشة الأمل كما سماها في كتابه، ورشة فتحت أمامه آفاق السؤال عن كل شيء يخص الحياة والوجود أيضاً. هنا في هذه الحارات العتيقة التي بدأ يأكلها صدأ الزمان كانت بداية ونهاية العالم بالنسبة له قبل أن تحمله أشرعة المراكب وأشرعة الأسئلة إلى ما بعد المكان وتبحر فيه نحو ضفاف المعرفة والكتاب واللغة وسحر اللغة. الملفت ببيته لقاسم حداد هذا الثراء الجمالي يعني، طبعاً هو تعويض عن شيء بتقديرك؟
قاسم حداد: يمكن تعويض عن الخسارات اللي خارج البيت حسب تعبيرك، [يضحكان] ومحاولة لجعل الحياة يعني محتملة، أنا طبيعتي بيتوتي كتير في السنوات الأخيرة، والعائلة وزوجتي تسهم بشكل رئيسي في إعطاء البيت شخصية شعرية يعني يمكن.
عكاز الجسد وعكاز الروح
أحمد علي الزين: طيب هذه العكاز تستخدمها لإعانة الجسد بعد هذا العطب طبعاً اللي تشفى منه إن شاء الله، فيه عكاز أخرى للروح؟
قاسم حداد: إي هي الروح التي لا تخذل يعني، الجسد يمكن يخذل في مراحل معينة، بس إذا استطاع الإنسان أن يجعل روحه يعني تنهر الجسد عندما يتعب، يكون مؤهلاً وجديراً بالحياة.
أحمد علي الزين: نعم، نعم، طيب سيد قاسم يعني يوم أمس هيك أخدتنا بجولة تفقدية إلى..
قاسم حداد: اكتشافية عفواً.
أحمد علي الزين: بالنسبة.. اكتشافية لإلي أنا، أنت بالنسبة لإلك ممكن تفقدية لمطارحك الأولى في المحرَق، أو المحرَّق يعني حيث البيت والذاكرة والأهل إقاماتهم الأولى، وأنت تقول في مكان ما يعني كنت تشوف المسافة بين المحرّق ربما والمنامة يعني بطول المسافة بين الطفل الذي كنته والشاب الذي صرته لاحقاً، يعني الآن كيف ترى إلى تلك المسافة والسنوات التي مضت؟
قاسم حداد: أشعر كل مرة أزور المحرّق وأنا أزورها لأسباب ببتكرها أحياناً لأني أحب أروح المحرّق وأمشي في الشوارع وأشوف الناس وأشوف البيت وكذا، كل مرة أذهب أشعر بدرجة من الخسارة تتعاظم لأسباب مش فقط الهجرة المتوالية للناس بسبب اختلاف أماكن السكن الجديدة، لكن أيضاً الهجم المستمر لأسباب التعمير الجديد والتغيير العمراني العشوائي الذي يفسد الذاكرة، كأنه فيه محو عشوائي لذاكرة الإنسان، ودائماً المكان القديم بالنسبة للإنسان العام، يعني مش فقط لازم يكون الشاعر أو المبدع، المكان القديم هو تنشيط الروح، ومنحها ثقة في أن الحياة ما زالت مستمرة.
قراءة بصوت قاسم حداد: الحديث عن مدينة الطفولة هو شيء يشبه الإنصات لطفل خجول يريد أن يتذكر مستقبله بالصورة والكلمة وقدر كبير من المخيلة. أظن أن المحرّق لم تكن مدينة فحسب، لكنها بالضبط كانت مدرسة بالمعنى العميق لمفهوم الدرس، وليس من غير دلالة أن تكون مدرسة الهداية قد أنشئت في المحرّق كمدرسة نظامية في العام 1919.
أحمد علي الزين: طفولة قاسم حداد يعني كانت طفولة فيها شيء أو كثير ربما من الشقاء والتعب، يعني عاركت في الحياة مبكراً، تنوّعت في المهن والشغل من وأنت طفل يعني مع الوالد الحدادة ربما هيك استهويت الشغل بالسفن بصناعة السفن، كنت بتحب إلى آخره من المهن اليومية في البحرين. يعني ماذا كوّنت هذه التجربة عندك؟ شو كونت في داخلك؟ في داخل الشاعر الذي صرته لاحقاً؟
قاسم حداد: يعني في يعني جيلي أظن بأنه كان بسبب طبيعة المجتمع، معظمه، الفقر والحاجة إلى تحمل أعباء الحياة وبيحمل عبء يعني من الطفولة الإنسان بيشعر بمسؤولية حمل العبء مع العائلة وعلى العائلة في تلك الفترة أن تبتكر وسائل للعيش، يعني الرجال يدخلون البحر، والنساء والأطفال في البيت عليهم أن يبتكروا وسائل الحياة، فأظن الجيل بأكمله كان يأخذ درس الحياة مبكراً، تعطي هذه التجربة مفهوم العدالة في الحياة، الحق الكامل بأن يعيش الإنسان حراً بالداخل وأن يحصل على حقه الطبيعي، يكدح بطبيعة الحال، لكن أن لا يبقى عليه الظلم أكثر من اللازم، يعني العمل هي من طبيعة الحياة، لكن المعاناة مبكرة من الطفولة من شأنها أن تجعل الإنسان عرضة للعطب إذا كان ضعيفاً، بناء على هذه التفاصيل الصغيرة في حياة الطفولة هي اللي يبنى عليها المجتمع، أن ينتمي.. أن تبنى التنمية الحضارية في المجتمع، إذا كانت النفس جريحة أو كان الإنسان عرضة لهدر كرامته، ما يكون مؤهلاً لأن يبني مجتمعاً مستقبلياً أو يذهب إلى المستقبل بروح قوية ومتماسكة، ويعني واثقة في أنها هي جديرة بهذه الحياة. الإحساس بهذا التفاوت الفج في المجتمع لا يبنى عليه مستقبل كريم، ولا تبنى حضارة وتنمية وعدالة حقيقية، يعني الدرس الرئيسي في حياة الإنسان في مجتمع من هالنوع بعد هذه المعاناة، هي مفهوم العدالة يعني هذه الأسئلة ربما هي اللي بدرت في أجيالنا أسئلة حول مفهوم العدالة، قبل الحرية. الحرية تأتي يعني نتيجة طبيعية لمفهوم العدالة يعني، بهالشكل أظن بأن هذا اللي رشّح جيلنا يعني حتى الجيل العربي ككل، رشحه لمواجهة أسئلته مبكراً، وأن يحمل حلمه الحقيقي والصادق للسعي لتحقيق المفقود.
أحمد علي الزين: لتغيير ما يعني..
قاسم حداد: لكي لا يعيش أطفاله وأبناؤه وأحفاده نفس..
أحمد علي الزين: نفس التجربة..
قاسم حداد: العذاب، نعم.
قراءة بصوت قاسم حداد: ظلام عليك أيها الجبل، كان الجبل في أحداقنا ينقل أقدامه الزجاجية من حلم في هيبة البحر إلى حلم في أبهة النخيل، ذهبنا لشحذ أعضائنا بأسنانه، بصلافة صخوره وغدر نتوءاته، فيما هو منشغل بصقل شظاياه، مباهياً بهيبة مراثيه وبراثنه الباسلة، رعاياه نزن به أحلامنا، كأنه معدن الوقت، يكنز نعمته في غيوم غامضة مبذولة لترف المكائد، تتماهى في خلاعة الأشكال، وتشف عن الماء اليابس.
[فاصل إعلاني]
قراءة بصوت قاسم حداد: طوبى لمن يرى البحر من بيته، لقد كان البحر يحيط بنا من كل جانب، وكنا نتعلم منه درساً في الألوان، منذ أن لامست أحداقنا زرقته الفاتنة، فليس أجمل من البحر، إلا الذهاب إليه، كمن يريد أن يعلن عن مغادرته الطفولة إلى مرحلة الصبا، إذا لم نقل الفتوة، فليس حدثاً عابراً أن يسافر طفل خارج بيته في المحرّق إلى المكان الغريب وبين المحرق وعراد مسافة الكواكب والمجرات أو هي المسافة بين الطفل والفتى.
بداية الانطلاق نحو الخارج
أحمد علي الزين: طيب أستاذ قاسم، البحرين يعني مدينة أو جزيرة خلينا نقول محاصرة بالماء من جميع الأطراف، متى كانت يعني أول مغادرة خارج هذه الجزيرة، وماذا اكتشفت؟ ماذا شعرت؟ وإلى أين ذهبت؟
قاسم حداد: نعم، أنا في أحد النصوص كنت أذكر صورة عن.. نحن لسنا جزيرة إلا لمن يرانا من بعيد، لكن عندما يأتي، يشعر كما نشعر نحن بأن هذه الجزيرة الصغيرة هي الكون بالنسبة لنا، ويبدو أن هذا يعني هذه الفكرة جعلت مشاكل الجزيرة أكبر من يعني قضاياها ومشاكلها..
أحمد علي الزين: أكبر من حجمها.
قاسم حداد: أكبر من حجمها الجغرافي يمكن ولسبب تاريخي في الحقيقة جعل إحساسي بهذه الجزيرة هي أفقي المفتوح على العالم والكون. وأنا صغير أول مرة يعني غادرت الجزيرة كنت مع جدتي لما كانت تروح تسافر إلى العتبات المقدسة في العراق، كنت صغيراً فكانت تاخذني..
أحمد علي الزين: اكتشفت العتبات المقدسة قبل ما تكتشف ردة فعلك الأولى تجاه الإنجليز؟
قاسم حداد: إي مثلاً..
أحمد علي الزين: الاكتشافات السياسية. [يضحكان]
قاسم حداد: يمكن إي، أكيد، وبعدين طبعاً سافرت مع والدي وعمي وكذا إلى السعودية، أنهم كانوا يعملون في السعودية، يشتغلون هناك سنوات طويلة، فكنا نسافر لهم باللنش أيضاً، إلى الخُبر، وإلى أهلي في القطيف، يعني هذه هي اكتشاف البحر يعني أبعد من الجزيرة لأنه إحنا البحر كنا نشوفه على السواحل وكان يزورنا في البيوت المجاورة في بيوتنا، لكن السفر كفكرة بدأت مع جدتي ومع والدي ووالدتي بعدين..
أحمد علي الزين: توالت لاحقاً..
قاسم حداد: إي بعدين، الشعر جعل السفر أكثر رحابة.. نعم..
أحمد علي الزين: طيب أستاذ قاسم كيف فطنت إلى الشعر؟ يعني كيف جيت للقصيدة؟ وأنت من هذه البيئة يعني التي تهتم بشؤون الحياة من أجل العيش بداية يعني؟ كيف فطنت للقصيدة وللشعر؟
قاسم حداد: يعني أنا لا أذكر بالضبط يعني البوادر الأولى يعني، ولكن أظن بأن ولادتي ونشأتي في بيت يعني تتوفر فيه الكتب والنصوص والقراءات لأنه في البيت في حسينية النساء، فكان فيه كتب وكنت أسمع الأشعار والعزائيات والكتب، القراءات المختلفة إضافة لأن الوالد كان يقرأ القرآن أيضاً، إضافة لـ.. فهي لفت.. يمكن هذه هي اللي لفتت النظر والمشاعر والحواس إلى فكرة التعبير عن النفس عن الذات وعن الـ.. وفكرة النص المكتوب، وكان.. كانت أيضاً أختي وابن عمتي عيسى كانوا أيضاً هم يجلبون المجلات والكتب وكذا فأقرأ معهم وهم كانوا يوفرون لي ويشجعوني على القراءة..
الخطوات الأولى نحو السياسة والشعر
أحمد علي الزين: على سيرة ابن عمتك عيسى، ابن عمتك عيسى دلّك على طريق السياسة مبكراً كان عمرك 8 سنين.
قاسم حداد: صحيح.
أحمد علي الزين: وقت اللي هيك اصطحبك معه للاحتجاج السياسي ضد يمكن يوميتها جاي رئيس حكومة..
قاسم حداد: زيارة وزير خارجية.. رئيس الوزراء سلوين لويد البريطاني، الإنجليزي نعم، فإي طبعاً هو أخوي عيسى الله يرحمه أخذني إلى عدة تجارب مش فقط للسياسة، يعني هو أول من أخذني إلى السينما مثلاً، أول من أخذني إلى العمل السياسي، إلى حركة القوميين العرب، وهو سبقني وبعدين هو أخذني، هو اللي جاب لي الكتب والمجلات يعني، فتعلمت دروساً كثيرة منه، وشعرت بأنه هو ساهم حقيقة حتى في التحدّي الذاتي لعلاقتي بالكتابة والشعر، لأني أذكر هو من أول اللي قرؤوا تجاربي.. محاولاتي الأولى التي كان لا يقتنع فيها في الأول، فكل ما أفرجيه أعطيه نص يقول لي: لأ هذا مش شعر، وأنت لسه بدري عليك فمرة أخذت له نصاً أنا كاتبه، وقلت له هذا لعبد الوهاب البياني، فقام أبدى إعجابه بالنص، [يضحكان] فهذه أحد التحديات الظريفة مع عيسى، وأعطاني دفعة قوية بعدين لما تأكّد بأن يعني أنا اللي أكتبه نصوصي مش نصوص البياتي.
أحمد علي الزين: فإذن أنه لاحقاً كيف تبلورت شخصيتك السياسية، طبعاً أنت كان معروف كانت تجربة غنية خاصة في بين أواخر الستينات وبداية السبعينات؟
قاسم حداد: إي، يعني هو يعني طبيعة الجيل يمكن أو يعني يقال عن جيلي من الشعراء والأدباء، يعني حتى على المستوى العربي أن معظمهم دخلوا إلى الأدب من باب السياسة، يقال ذلك، وهذا تعبير يعني لا أعتبره قدحاً في جيلي، ولكن أعتبره إشارة لجدية الحلم العميق في جيلي الشعري والأدبي، بأنه هو هذا الحلم كان يبحث عن وسائل للتعبير عن نفسه، ويمكن هذا جعلني عرضة لصراعات واحتدامات كبيرة بين طموحي الشعري والأدبي..
أحمد علي الزين: وبين طموحك السياسي والحلم اللي عم..
قاسم حداد: وبين إي.. أيوه وبين انهماكي بالعمل السياسي خصوصاً أني مبكراً أو أزعم ذلك، بأني كنت وعيت فكرة حرية التعبير الفني والأدبي يجب أن تكون مستقلة ولا تخضع لشرط الحزبي والسياسي، وهذا جعلني.. موضوع
أحمد علي الزين: نجوت يعني.
قاسم حداد: إلى حد كبير أزعم ذلك يعني، وكنت أحتفظ بمسافة ذهبية أنا أسميها، يعني ضرورية بين عملي وانهماكي اليومي في العمل السياسي وبين النص الذي أكتبه.
أحمد علي الزين: استقلالية القصيدة.. عن الفكر..
قاسم حداد: واستقلالية القصيدة والنص اللي أكتبه بأحلامي وبحرياتي وبشروطه الفنية مش الـ.. أظن بأن تجربتي تحاكي تجارب مثيلة في مناطق كثيرة من التجربة الشعرية العربية، لأنها كانت تعاني من نفس الهاجس ونفس المشكلة، لأن كتير مواهب تحررت مبكراً، وهذه هي المواهب أعتقد التي معظمها استطاع أن يستمر في الكتابة حتى بعد الـ..
أحمد علي الزين: انهيارات..
قاسم حداد: والانهيارات الأيدولوجية وهذا باعتبار إنه المبدع أو الشاعر أو الفنان كلما اتكأ على داخله استطاع هذا الداخل والذات أن تواصل العمل والتعبير عن النفس والكتابة والإبداع، لكن عندما تتكئ على الخارج عندما ينهار هذا الخارج تنهار معه.
عندما يكون الإنسان حراً في السجن
أحمد علي الزين: على كل حال أنت يعني طبعاً نجوت بالقصيدة أن لا تكون تحت إملاءات فكرية أو حزبية معينة أو سياسية، ولكنك لم تنجُ من أن تدفع ثمن.. بمعنى آخر يعني أن تُسجن نتيجة هذه الأفكار، وبالسبعينات بداية السبعينات يمكن أنت سجنت لمدة أربع سنوات، تقول عن هذه التجربة هيكِ خلال الدردشة بس التقينا، إنه كأنك اكتشفت حريتك في السجن أكثر، ووجدت نفسك داخل السجن أكثر حرية من الخارج.
قاسم حداد: صحيح.
أحمد علي الزين: كيف تفسر لناهذا؟
قاسم حداد: أظن بأن تعبيري بأن فترة السجن والاعتقال هي من أجمل الفترات حسماً يعني، وأكثرها عمقاً في حياتي، ويمكن في حياة كثيرين تعرضوا للتجربة، باعتبار أني كنت في السجن خارج السلطات، وقادر أن أتأمل هذه التجربة، وأنا في أقصاها، فدرس الاعتقال هو جعلني أن أكتشف طاقتي الحقيقية اللي هي أبعد من الحزب وأبعد من التنظيم، وأبعد من العمل السياسي والأيدولوجي، كنت أشعر بأني أمتلك نعمة مميزة، هي نعمة التعبير عن نفسي بالشعر. الشعر هي أحد حصوني حتى الآن أشعر ذلك، وربما..
أحمد علي الزين: اكتشفت نفسك أكثر يمكن؟ اكتشفت نفسك وداخلك أكثر.
قاسم حداد: أكثر.. الطاقة الحقيقية وربما تأكدت أكثر، بأن موقفي وجدلي ودخولي مع الشرط السياسي في حوار ورفض الخضوع للشرط السياسي قبل الاعتقال أثناء العمل السياسي، تيقنت في السجن أني كنت على صواب بأني تحررت من الشرط السياسي باعتباره هو يعني الحامي أو الملجأ الأخير أو الحصن، أنا احتفظت بالشعر بوصفه حصني مش السياسي بوصفه حصني، يعني هذه هي أظن المسألة اللي جعلتني أثق كثيراً في الشعر.
قراءة بصوت قاسم حداد: الجحيم الحميم، شتاء وصحراء ووحدة، شجيرة الصبار هناك، ليل وسكون، والجميع يهبطون في آبار النوم العميقة، ذات الأحلام، وأنا وحدي هائم في غابات الليل، مهلهل الأطراف، أهجهج كالنورس الضائع المنتوف، لا أهجع، حروف وكلمات وشظايا، خيالات وومض فوق الوسادة، الرفاق يتنقلون من حلم لم ينتهِ، إلى حلم لم يبدأ، وأنا لا أهجع، كالموجة المجنونة المتأرجحة في قدم مارد طائش، ولا أهجع، يختلط الفردوس بالجحيم، في لهج صريخي، ولا أهجع، وفي الصباح حين يستيقظ الرفاق يجدون في فراشي جسداً مريضاً وقصيدة نشيطة.
اسم البرنامج: روافد "الجزء الأول"
مقدم البرنامج: أحمد علي الزين
تاريخ الحلقة: الجمعة 12-1-2007
ضيف الحلقة: قاسم حداد (شاعر من البحرين)
قاسم حداد: يعود اسم المحرّق، كما أحب أن أذهب إلى أحد ملوك الحيرة، الذين بسطوا حكمهم على هذه المنطقة قبل الإسلام، ويدعى المحرَّق على وزن المفعَّل بالتشديد وكسر العين لاشتهاره بالتخلص من خصومه السياسيين بإحراقهم. لا يجبر هذا التفسير أحداً لكن ليس ثمة اقتراح تاريخي أعرفه يروق لي شعرياً غير هذا التفسير، ربما كان في هذا نزوع متماهٍ للاتصال بالشاعر طرفة بن العبد، عبر هذا السديم التاريخي الذي اخترقه طرفة مثل كلمة الشعر الباهرة، عائشاً منذ ملوك الحيرة حتى حيرة الملوك، حيث ما يزال. فمنذ أن وعيت في هذه المدينة شعرت بأنها قائمة على ما يشبه التنّور الجحيمي المتواصل الالتهاب والتحوّل.
ذاكرة المكان لدى الشاعر
[أحمد علي الزين وقاسم حداد يسيران في حي قديم وحارة ضيقة]
هذه حي بوخميس من الأحياء اللي كتبت عنها في ورشة الأمل واللي عشت فيها وتربيت فيها، أحياء صغيرة متداخلة كثيراً يعني.
أحمد علي الزين: أدّيش عمرها المناطق هون تقريباً؟
قاسم حداد: يعني 200، 300 سنة.
أحمد علي الزين: والله؟
قاسم حداد: إي. هذا البيت بيت العائلة هاي المدخل، طبعاً الأبواب تغيّرت كانت الأبواب الخشبية القديمة وكذا فيه صور لها قديمة في هالمنطقة.
أحمد علي الزين: كان يقرأ عن ابنته طفول واحدة من قصائده ويسأل: ماذا يفعل الشعراء بأحلامنا الواهنة؟ قاسم حداد يستقبلك بفاتحة الشعر في دارته في البحرين، ثم يأخذك إلى مصادر الشعر والحنين إلى المحرّق، البيوت القديمة والذاكرة، مكان الولادة، مكان الشقاء الأول، حيث بدأت الحكاية والحكاية ورشة الأمل كما سماها في كتابه، ورشة فتحت أمامه آفاق السؤال عن كل شيء يخص الحياة والوجود أيضاً. هنا في هذه الحارات العتيقة التي بدأ يأكلها صدأ الزمان كانت بداية ونهاية العالم بالنسبة له قبل أن تحمله أشرعة المراكب وأشرعة الأسئلة إلى ما بعد المكان وتبحر فيه نحو ضفاف المعرفة والكتاب واللغة وسحر اللغة. الملفت ببيته لقاسم حداد هذا الثراء الجمالي يعني، طبعاً هو تعويض عن شيء بتقديرك؟
قاسم حداد: يمكن تعويض عن الخسارات اللي خارج البيت حسب تعبيرك، [يضحكان] ومحاولة لجعل الحياة يعني محتملة، أنا طبيعتي بيتوتي كتير في السنوات الأخيرة، والعائلة وزوجتي تسهم بشكل رئيسي في إعطاء البيت شخصية شعرية يعني يمكن.
عكاز الجسد وعكاز الروح
أحمد علي الزين: طيب هذه العكاز تستخدمها لإعانة الجسد بعد هذا العطب طبعاً اللي تشفى منه إن شاء الله، فيه عكاز أخرى للروح؟
قاسم حداد: إي هي الروح التي لا تخذل يعني، الجسد يمكن يخذل في مراحل معينة، بس إذا استطاع الإنسان أن يجعل روحه يعني تنهر الجسد عندما يتعب، يكون مؤهلاً وجديراً بالحياة.
أحمد علي الزين: نعم، نعم، طيب سيد قاسم يعني يوم أمس هيك أخدتنا بجولة تفقدية إلى..
قاسم حداد: اكتشافية عفواً.
أحمد علي الزين: بالنسبة.. اكتشافية لإلي أنا، أنت بالنسبة لإلك ممكن تفقدية لمطارحك الأولى في المحرَق، أو المحرَّق يعني حيث البيت والذاكرة والأهل إقاماتهم الأولى، وأنت تقول في مكان ما يعني كنت تشوف المسافة بين المحرّق ربما والمنامة يعني بطول المسافة بين الطفل الذي كنته والشاب الذي صرته لاحقاً، يعني الآن كيف ترى إلى تلك المسافة والسنوات التي مضت؟
قاسم حداد: أشعر كل مرة أزور المحرّق وأنا أزورها لأسباب ببتكرها أحياناً لأني أحب أروح المحرّق وأمشي في الشوارع وأشوف الناس وأشوف البيت وكذا، كل مرة أذهب أشعر بدرجة من الخسارة تتعاظم لأسباب مش فقط الهجرة المتوالية للناس بسبب اختلاف أماكن السكن الجديدة، لكن أيضاً الهجم المستمر لأسباب التعمير الجديد والتغيير العمراني العشوائي الذي يفسد الذاكرة، كأنه فيه محو عشوائي لذاكرة الإنسان، ودائماً المكان القديم بالنسبة للإنسان العام، يعني مش فقط لازم يكون الشاعر أو المبدع، المكان القديم هو تنشيط الروح، ومنحها ثقة في أن الحياة ما زالت مستمرة.
قراءة بصوت قاسم حداد: الحديث عن مدينة الطفولة هو شيء يشبه الإنصات لطفل خجول يريد أن يتذكر مستقبله بالصورة والكلمة وقدر كبير من المخيلة. أظن أن المحرّق لم تكن مدينة فحسب، لكنها بالضبط كانت مدرسة بالمعنى العميق لمفهوم الدرس، وليس من غير دلالة أن تكون مدرسة الهداية قد أنشئت في المحرّق كمدرسة نظامية في العام 1919.
أحمد علي الزين: طفولة قاسم حداد يعني كانت طفولة فيها شيء أو كثير ربما من الشقاء والتعب، يعني عاركت في الحياة مبكراً، تنوّعت في المهن والشغل من وأنت طفل يعني مع الوالد الحدادة ربما هيك استهويت الشغل بالسفن بصناعة السفن، كنت بتحب إلى آخره من المهن اليومية في البحرين. يعني ماذا كوّنت هذه التجربة عندك؟ شو كونت في داخلك؟ في داخل الشاعر الذي صرته لاحقاً؟
قاسم حداد: يعني في يعني جيلي أظن بأنه كان بسبب طبيعة المجتمع، معظمه، الفقر والحاجة إلى تحمل أعباء الحياة وبيحمل عبء يعني من الطفولة الإنسان بيشعر بمسؤولية حمل العبء مع العائلة وعلى العائلة في تلك الفترة أن تبتكر وسائل للعيش، يعني الرجال يدخلون البحر، والنساء والأطفال في البيت عليهم أن يبتكروا وسائل الحياة، فأظن الجيل بأكمله كان يأخذ درس الحياة مبكراً، تعطي هذه التجربة مفهوم العدالة في الحياة، الحق الكامل بأن يعيش الإنسان حراً بالداخل وأن يحصل على حقه الطبيعي، يكدح بطبيعة الحال، لكن أن لا يبقى عليه الظلم أكثر من اللازم، يعني العمل هي من طبيعة الحياة، لكن المعاناة مبكرة من الطفولة من شأنها أن تجعل الإنسان عرضة للعطب إذا كان ضعيفاً، بناء على هذه التفاصيل الصغيرة في حياة الطفولة هي اللي يبنى عليها المجتمع، أن ينتمي.. أن تبنى التنمية الحضارية في المجتمع، إذا كانت النفس جريحة أو كان الإنسان عرضة لهدر كرامته، ما يكون مؤهلاً لأن يبني مجتمعاً مستقبلياً أو يذهب إلى المستقبل بروح قوية ومتماسكة، ويعني واثقة في أنها هي جديرة بهذه الحياة. الإحساس بهذا التفاوت الفج في المجتمع لا يبنى عليه مستقبل كريم، ولا تبنى حضارة وتنمية وعدالة حقيقية، يعني الدرس الرئيسي في حياة الإنسان في مجتمع من هالنوع بعد هذه المعاناة، هي مفهوم العدالة يعني هذه الأسئلة ربما هي اللي بدرت في أجيالنا أسئلة حول مفهوم العدالة، قبل الحرية. الحرية تأتي يعني نتيجة طبيعية لمفهوم العدالة يعني، بهالشكل أظن بأن هذا اللي رشّح جيلنا يعني حتى الجيل العربي ككل، رشحه لمواجهة أسئلته مبكراً، وأن يحمل حلمه الحقيقي والصادق للسعي لتحقيق المفقود.
أحمد علي الزين: لتغيير ما يعني..
قاسم حداد: لكي لا يعيش أطفاله وأبناؤه وأحفاده نفس..
أحمد علي الزين: نفس التجربة..
قاسم حداد: العذاب، نعم.
قراءة بصوت قاسم حداد: ظلام عليك أيها الجبل، كان الجبل في أحداقنا ينقل أقدامه الزجاجية من حلم في هيبة البحر إلى حلم في أبهة النخيل، ذهبنا لشحذ أعضائنا بأسنانه، بصلافة صخوره وغدر نتوءاته، فيما هو منشغل بصقل شظاياه، مباهياً بهيبة مراثيه وبراثنه الباسلة، رعاياه نزن به أحلامنا، كأنه معدن الوقت، يكنز نعمته في غيوم غامضة مبذولة لترف المكائد، تتماهى في خلاعة الأشكال، وتشف عن الماء اليابس.
[فاصل إعلاني]
قراءة بصوت قاسم حداد: طوبى لمن يرى البحر من بيته، لقد كان البحر يحيط بنا من كل جانب، وكنا نتعلم منه درساً في الألوان، منذ أن لامست أحداقنا زرقته الفاتنة، فليس أجمل من البحر، إلا الذهاب إليه، كمن يريد أن يعلن عن مغادرته الطفولة إلى مرحلة الصبا، إذا لم نقل الفتوة، فليس حدثاً عابراً أن يسافر طفل خارج بيته في المحرّق إلى المكان الغريب وبين المحرق وعراد مسافة الكواكب والمجرات أو هي المسافة بين الطفل والفتى.
بداية الانطلاق نحو الخارج
أحمد علي الزين: طيب أستاذ قاسم، البحرين يعني مدينة أو جزيرة خلينا نقول محاصرة بالماء من جميع الأطراف، متى كانت يعني أول مغادرة خارج هذه الجزيرة، وماذا اكتشفت؟ ماذا شعرت؟ وإلى أين ذهبت؟
قاسم حداد: نعم، أنا في أحد النصوص كنت أذكر صورة عن.. نحن لسنا جزيرة إلا لمن يرانا من بعيد، لكن عندما يأتي، يشعر كما نشعر نحن بأن هذه الجزيرة الصغيرة هي الكون بالنسبة لنا، ويبدو أن هذا يعني هذه الفكرة جعلت مشاكل الجزيرة أكبر من يعني قضاياها ومشاكلها..
أحمد علي الزين: أكبر من حجمها.
قاسم حداد: أكبر من حجمها الجغرافي يمكن ولسبب تاريخي في الحقيقة جعل إحساسي بهذه الجزيرة هي أفقي المفتوح على العالم والكون. وأنا صغير أول مرة يعني غادرت الجزيرة كنت مع جدتي لما كانت تروح تسافر إلى العتبات المقدسة في العراق، كنت صغيراً فكانت تاخذني..
أحمد علي الزين: اكتشفت العتبات المقدسة قبل ما تكتشف ردة فعلك الأولى تجاه الإنجليز؟
قاسم حداد: إي مثلاً..
أحمد علي الزين: الاكتشافات السياسية. [يضحكان]
قاسم حداد: يمكن إي، أكيد، وبعدين طبعاً سافرت مع والدي وعمي وكذا إلى السعودية، أنهم كانوا يعملون في السعودية، يشتغلون هناك سنوات طويلة، فكنا نسافر لهم باللنش أيضاً، إلى الخُبر، وإلى أهلي في القطيف، يعني هذه هي اكتشاف البحر يعني أبعد من الجزيرة لأنه إحنا البحر كنا نشوفه على السواحل وكان يزورنا في البيوت المجاورة في بيوتنا، لكن السفر كفكرة بدأت مع جدتي ومع والدي ووالدتي بعدين..
أحمد علي الزين: توالت لاحقاً..
قاسم حداد: إي بعدين، الشعر جعل السفر أكثر رحابة.. نعم..
أحمد علي الزين: طيب أستاذ قاسم كيف فطنت إلى الشعر؟ يعني كيف جيت للقصيدة؟ وأنت من هذه البيئة يعني التي تهتم بشؤون الحياة من أجل العيش بداية يعني؟ كيف فطنت للقصيدة وللشعر؟
قاسم حداد: يعني أنا لا أذكر بالضبط يعني البوادر الأولى يعني، ولكن أظن بأن ولادتي ونشأتي في بيت يعني تتوفر فيه الكتب والنصوص والقراءات لأنه في البيت في حسينية النساء، فكان فيه كتب وكنت أسمع الأشعار والعزائيات والكتب، القراءات المختلفة إضافة لأن الوالد كان يقرأ القرآن أيضاً، إضافة لـ.. فهي لفت.. يمكن هذه هي اللي لفتت النظر والمشاعر والحواس إلى فكرة التعبير عن النفس عن الذات وعن الـ.. وفكرة النص المكتوب، وكان.. كانت أيضاً أختي وابن عمتي عيسى كانوا أيضاً هم يجلبون المجلات والكتب وكذا فأقرأ معهم وهم كانوا يوفرون لي ويشجعوني على القراءة..
الخطوات الأولى نحو السياسة والشعر
أحمد علي الزين: على سيرة ابن عمتك عيسى، ابن عمتك عيسى دلّك على طريق السياسة مبكراً كان عمرك 8 سنين.
قاسم حداد: صحيح.
أحمد علي الزين: وقت اللي هيك اصطحبك معه للاحتجاج السياسي ضد يمكن يوميتها جاي رئيس حكومة..
قاسم حداد: زيارة وزير خارجية.. رئيس الوزراء سلوين لويد البريطاني، الإنجليزي نعم، فإي طبعاً هو أخوي عيسى الله يرحمه أخذني إلى عدة تجارب مش فقط للسياسة، يعني هو أول من أخذني إلى السينما مثلاً، أول من أخذني إلى العمل السياسي، إلى حركة القوميين العرب، وهو سبقني وبعدين هو أخذني، هو اللي جاب لي الكتب والمجلات يعني، فتعلمت دروساً كثيرة منه، وشعرت بأنه هو ساهم حقيقة حتى في التحدّي الذاتي لعلاقتي بالكتابة والشعر، لأني أذكر هو من أول اللي قرؤوا تجاربي.. محاولاتي الأولى التي كان لا يقتنع فيها في الأول، فكل ما أفرجيه أعطيه نص يقول لي: لأ هذا مش شعر، وأنت لسه بدري عليك فمرة أخذت له نصاً أنا كاتبه، وقلت له هذا لعبد الوهاب البياني، فقام أبدى إعجابه بالنص، [يضحكان] فهذه أحد التحديات الظريفة مع عيسى، وأعطاني دفعة قوية بعدين لما تأكّد بأن يعني أنا اللي أكتبه نصوصي مش نصوص البياتي.
أحمد علي الزين: فإذن أنه لاحقاً كيف تبلورت شخصيتك السياسية، طبعاً أنت كان معروف كانت تجربة غنية خاصة في بين أواخر الستينات وبداية السبعينات؟
قاسم حداد: إي، يعني هو يعني طبيعة الجيل يمكن أو يعني يقال عن جيلي من الشعراء والأدباء، يعني حتى على المستوى العربي أن معظمهم دخلوا إلى الأدب من باب السياسة، يقال ذلك، وهذا تعبير يعني لا أعتبره قدحاً في جيلي، ولكن أعتبره إشارة لجدية الحلم العميق في جيلي الشعري والأدبي، بأنه هو هذا الحلم كان يبحث عن وسائل للتعبير عن نفسه، ويمكن هذا جعلني عرضة لصراعات واحتدامات كبيرة بين طموحي الشعري والأدبي..
أحمد علي الزين: وبين طموحك السياسي والحلم اللي عم..
قاسم حداد: وبين إي.. أيوه وبين انهماكي بالعمل السياسي خصوصاً أني مبكراً أو أزعم ذلك، بأني كنت وعيت فكرة حرية التعبير الفني والأدبي يجب أن تكون مستقلة ولا تخضع لشرط الحزبي والسياسي، وهذا جعلني.. موضوع
أحمد علي الزين: نجوت يعني.
قاسم حداد: إلى حد كبير أزعم ذلك يعني، وكنت أحتفظ بمسافة ذهبية أنا أسميها، يعني ضرورية بين عملي وانهماكي اليومي في العمل السياسي وبين النص الذي أكتبه.
أحمد علي الزين: استقلالية القصيدة.. عن الفكر..
قاسم حداد: واستقلالية القصيدة والنص اللي أكتبه بأحلامي وبحرياتي وبشروطه الفنية مش الـ.. أظن بأن تجربتي تحاكي تجارب مثيلة في مناطق كثيرة من التجربة الشعرية العربية، لأنها كانت تعاني من نفس الهاجس ونفس المشكلة، لأن كتير مواهب تحررت مبكراً، وهذه هي المواهب أعتقد التي معظمها استطاع أن يستمر في الكتابة حتى بعد الـ..
أحمد علي الزين: انهيارات..
قاسم حداد: والانهيارات الأيدولوجية وهذا باعتبار إنه المبدع أو الشاعر أو الفنان كلما اتكأ على داخله استطاع هذا الداخل والذات أن تواصل العمل والتعبير عن النفس والكتابة والإبداع، لكن عندما تتكئ على الخارج عندما ينهار هذا الخارج تنهار معه.
عندما يكون الإنسان حراً في السجن
أحمد علي الزين: على كل حال أنت يعني طبعاً نجوت بالقصيدة أن لا تكون تحت إملاءات فكرية أو حزبية معينة أو سياسية، ولكنك لم تنجُ من أن تدفع ثمن.. بمعنى آخر يعني أن تُسجن نتيجة هذه الأفكار، وبالسبعينات بداية السبعينات يمكن أنت سجنت لمدة أربع سنوات، تقول عن هذه التجربة هيكِ خلال الدردشة بس التقينا، إنه كأنك اكتشفت حريتك في السجن أكثر، ووجدت نفسك داخل السجن أكثر حرية من الخارج.
قاسم حداد: صحيح.
أحمد علي الزين: كيف تفسر لناهذا؟
قاسم حداد: أظن بأن تعبيري بأن فترة السجن والاعتقال هي من أجمل الفترات حسماً يعني، وأكثرها عمقاً في حياتي، ويمكن في حياة كثيرين تعرضوا للتجربة، باعتبار أني كنت في السجن خارج السلطات، وقادر أن أتأمل هذه التجربة، وأنا في أقصاها، فدرس الاعتقال هو جعلني أن أكتشف طاقتي الحقيقية اللي هي أبعد من الحزب وأبعد من التنظيم، وأبعد من العمل السياسي والأيدولوجي، كنت أشعر بأني أمتلك نعمة مميزة، هي نعمة التعبير عن نفسي بالشعر. الشعر هي أحد حصوني حتى الآن أشعر ذلك، وربما..
أحمد علي الزين: اكتشفت نفسك أكثر يمكن؟ اكتشفت نفسك وداخلك أكثر.
قاسم حداد: أكثر.. الطاقة الحقيقية وربما تأكدت أكثر، بأن موقفي وجدلي ودخولي مع الشرط السياسي في حوار ورفض الخضوع للشرط السياسي قبل الاعتقال أثناء العمل السياسي، تيقنت في السجن أني كنت على صواب بأني تحررت من الشرط السياسي باعتباره هو يعني الحامي أو الملجأ الأخير أو الحصن، أنا احتفظت بالشعر بوصفه حصني مش السياسي بوصفه حصني، يعني هذه هي أظن المسألة اللي جعلتني أثق كثيراً في الشعر.
قراءة بصوت قاسم حداد: الجحيم الحميم، شتاء وصحراء ووحدة، شجيرة الصبار هناك، ليل وسكون، والجميع يهبطون في آبار النوم العميقة، ذات الأحلام، وأنا وحدي هائم في غابات الليل، مهلهل الأطراف، أهجهج كالنورس الضائع المنتوف، لا أهجع، حروف وكلمات وشظايا، خيالات وومض فوق الوسادة، الرفاق يتنقلون من حلم لم ينتهِ، إلى حلم لم يبدأ، وأنا لا أهجع، كالموجة المجنونة المتأرجحة في قدم مارد طائش، ولا أهجع، يختلط الفردوس بالجحيم، في لهج صريخي، ولا أهجع، وفي الصباح حين يستيقظ الرفاق يجدون في فراشي جسداً مريضاً وقصيدة نشيطة.