شعراء في مشروع الشيخ 2- قاسم حداد

ليل المحرق

Active member
رد: مختارات من قلب الحب.. قاسم حداد

مرحبا زهرة الدنيا واستاذ محمد..

شكراً للمرور والتعليق..

:lol: من يدري قد يقرأها استاذ خالد الشيخ ويعجب بها ويغنيها.. king
لا ادري ان كانت تصلح للغناء ام لا.. :wink:


:lol: انا ايضاً اعتقد انها كانت تعني التشابه في الاسم فقط..

:oops: شكراً زهرة الناس..

بالنسبة للبحث.. سيكون موجوداً قريب بعد ان استلمه من المعلمة>>علشان احطه بدون أخطاء..

استفدت كثيراً من موقع قاسم حداد في كتابة البحث..

استاذي اسمح لي ان اجيب على اسئلتك التي وجهتها الى الأعضاء الذين يقرأون لقاسم حداد..

انا قارئة جديدة لقاسم حداد..

تعرفت على تجربته من خلال أحاديث ابي الجميلة عن ذكرياته الجميلة معه..

وعندما استمعت الى اغنية مكان آمن للحب وعرفت ان قاسم حداد هو من كتبها..

دفعني الفضول اكثر للتعرف على تجربة هذا الشاعر..

بحثت في مكتبة الوالد .. فوجدت مرادي..

:lol: ولا زلت اجد ما أريد كلما انهيت قراءة ديوان..

:evil: طبعاً الدواوين تصادر من مكتبة الوالد وتنتقل لمكتبتي..

لماذا احب قاسم..؟؟
لأني عندما اقرأ له.. فإني لا اقرأ بعيني فقط..

عقلي ايضاً يقرأ.. يفسر ما يقصده الشاعر من هذا البيت وذاك..خاصة وانه معروف باستخدامه للرمز في قصائده

في كل مرة.. اجد تفسيراً آخر.. معنى آخر..

هذا ما اسميه التشويق اثناء القراءة..

تستطيع ان تخوض مغامرة رائعة مع شعر قاسم..

وانا بشكل عام احب كل ما هو مختلف..

وقاسم مختلف.. يقدم شعره بشكل مختلف.. ومميز..
 
رد: الأخوه الكرام

بوخالد(وجوه) بوعبدالله(مستحيل) بوعلي(محمد الملا)...

تسلمون ودائما على المحبه نلتقي خارج وداخل هذا المنتدى الجميل.

اما بوعلي ...الحمدلله على السلامه واخيرا رديت هذا الرد الجميل, ولاكن

عندي سؤال بوعلي..يوم هل المره الكمبيوتر قبل مشاركتك هل كنت على

وضؤ!!!!!! مجرد سؤال؟؟؟؟؟؟
 
الخطاب النقدي عند قاسم حداد و صلته بتجربته الشعرية

ننقل لأعضائنا الكرام هذه الدراسة المنقولة للدكتور عبدالله أحمد المهنا والتي ستكون على عدة حلقات لتعم الفائدة لأعضائنا وزوار منتدى كلمات الشعر

الخطاب النقدي عند قاسم حداد و صلته بتجربته الشعرية

الكاتب: الدكتور عبدالله أحمد المهنا


الحلقة (1)​

يعتبر الشاعر البحريني قاسم حداد (1948 م -.....) واحداً من أبرز الأصوات الشعرية التي ظهرت على الساحة الثقافية في البحرين خلال الربع الأخير من هذا القرن، وقد أتاحت له موهبته الشعرية المتكئة على المغامرة الإبداعية في التجريب الشعري المتجاوز لكل أشكال الموروث والمكرس أن يؤسس لنفسه قاعدة شعرية تكرست جذورها من خلال توالي إنتاجه الشعري بصورة متصلة، واتصاله بجماعة "مجلة كلمات" (مجلة أدبية فصلية تصدر عن أسرة الأدباء والكتاب في البحرين)، التي تعتبر من أهدافها الرئيسية "اقتحام آفاق التجربة، والتجريب بعناصر الموهبة والمعرفة.. واكتشاف الإمكانات الإبداعية التي توفرها تعددية الرؤية" (كلمات، العدد الأول 1983 ص 6)
في هذا المناخ المنفتح على آفاق التجريب، وما تحمله تلك الجماعة الأدبية من أفكار ورؤى حداثية، واصل قاسم حداد تجاربه الشعرية الجديدة باندفاعه أكبر مكنته من التأسيس لرؤى وأفكار جديدة تشكلت في نهاية الأمر في صيغة خطاب نقدي يعد الأول من نوعه، لا في البحرين فحسب بل في منطقة الخليج أيضاً، إذ لم تعرف المنطقة صيغة خطاب نقدي يوجه التجارب الإبداعية إلى استلهام روح العصر، ومساءلة الثوابت والأشكال الإبداعية التي فرضت هيمنتها على المبدع عبر العصور، والدعوة إلى التمرد عليها ونبذها ومهاجمة من يرتضيها أسلوباً للإبداع كما يتجلى ذلك في بيان "موت الكورس" الذي أصدره قاسم حداد، وأمين صالح في البحرين في شهر ديسمبر عام 1984.

وتحاول هذه الدراسة أن تناقش العلائق المتواشجة بين صيغة هذا الخطاب النقدي، الذي يكاد يكون تجربة نقدية للممارسة الإبداعية التي تحاول أن تفرض وجودها على واقع منفتح يموج بكل أشكال الثقافة الوافدة، وبين طبيعة التجربة الإبداعية التي يصدر عنها قاسم حداد، وروافدها التي تمدها بأسباب الحياة.
ولعل من المهم قبل الخوض في مناقشة تلك العلاقة بين هذا الخطاب النقدي والتجربة الشعرية عند قاسم حداد أن نتوقف عند المرتكزات الأساسية، والعناصر الجوهرية التي ينطلق منه الخطاب لإثبات شرعية ما يدعو إليه في محيط يغلب عليه التمسك بالقديم والمورثات التقليدية المكرسة، التي يعد الخروج عليها مروقاً على القيم والثوابت البديهية وتتلخص أفكار البيان في النقاط التالية:
1. ليس النص الأول نموذجاً، ولا سطوة له على المخيلة، علينا أن نكسر صوت الجوقة في مدح النص الأول.
2. لا نبحث في السطح بل نحاول اقتحام الباطن.
3. الإبداع مساءلة دائمة للواقع، لذا يستهوينا استجواب الواقع.
4. الوقع إيقاع يتشكل داخل لحظة الكتابة.
5. النص يكتب اللغة، نهذي قليلاً ليبدأ نظام الفوضى يخترق حاجز المعنى والمعجم والمستنقعات.
6. الكتابة نقيض الكلام والكلام لسان الواقع، والكتابة هذيان الحلم وتجليه في آن واحد.
7. التجريب بذرة الإبداع، نقدر أن نكتب تجربتنا بشروطنا وعناصرنا الذاتية.
8. نقف خارج دائرة التيارات والمدارس، لا نتبع راية.
9. الكاتب ليس عبداً للأشكال، بل خالقاً لها. نسعى إلى شكل يكون بديلاً أو عدو لما سبق ابتكاره وترسيخه.
10. ضد القارئ الذي يبحث عن الحلول والتفسير والثورة في كتاب لينام رائق الذهن على سرير مريح 3.

هذه هي أهم الأفكار الواردة في البيان الموقع من شخصيتين بارزتين في مجال الإبداع الحداثي، وهما قاسم حداد، وأمين صالح.
ولعل أول ما يلاحظ على هذا البيان، الذي تبلغ مساحته الورقية ثمان صفحات أنه قد صيغ بلغة ثورية، رافضة لكل شيء سابق عليها، تبلغ أحيانا حد الاستفزاز والتعالي والازدراء للآخر الذي لا يتفق مع منطلقاتها أو تصوراتها للإبداع الذي ينبغي أن يكون عليه المبدع في حواره مع الواقع الذي يسائله. ولعل هذه الثورة المفرطة و"النحن" المتضخمة في هذا البيان تعود إلى إحساس المعوقين على البيان أنهما في مواجهة إرهاب فكري وثقافي يمارسه الأنموذج السائد ضد الإبداع الجديد، فيقابلانه حد تعبيرهما بمثله "إرهاب فكري نحاربه بالإفراط في التجريب، بدورنا نحارب النظام بالفوضى، المنطلق بالغموض، البناء بالتجريب، الأشكال والمضامين القديمة، بالأشكال والمضامين الجديدة" (المصدر السابق)
وأحسب أن إثارة المشكلات المأزقية مع الثقافة المهيمنة، وإثارة الغبار في وجهها والتمرد عليها، واقتلاع جذورها إن أمكن ذلك، وإهالة التراب على بقاياها، كلها كما تبدو وسائل إثارة للفت الانتباه إلى الإبداع الجديد الذي يبحث له عن موقع يضع فيه بذور أشجاره في غاية ممتدة من أشجار الإبداع السامقة عبر تراكمات الزمن، وإلا فما الذي يمنع من التصالح مع الثقافة السائدة واستيعابها فهماً وتمحيصاً ثم تجاوزها بالإبداعات الخاصة، يضيف فيها اللاحق على السابق إبداعاً يتناغم معه في سلم التطور الإبداعي من غير أن يحدث التصادم، فالقديم لا سلطان له على الحديث إلا بمقدار عجز هذا الحديث عن فهم متطلبات المرحلة التي يعالجها، وعدم القدرة على الرد على التساؤلات التي تثيرها الممارسة الإبداعية في إطار العلاقة الشخصية للإنسان والكون (أدونيس، فاتحة لنهايات القرن، دار العودة، بيروت، 1980، ص 321) ولكن علينا أن نتذكر من جانب آخر أن الحداثة في جوهرها ترفض المصالحة أو المهادنة مع السائد والمكرس بل تهاجمه دون هوادة أو توقف مدفوعة بزخم وقتها دون توقف أو تتردد إذ في هذين الأخيرين يكمن عطبها وموتها، ولذا تنشأ الحداثة هجوماً لا مصالحة، ومساءلة لا جواباً، قلقاً لا اطمئناناً، انتقالاً من المعلوم إلى المجهول، من الألفة إلى الغرابة، من الواضح إلى الغامض" (موت الكورس، البيانات، 14) ومهما يكن من أمر فإن نبرة التحدي عند موقعي البيان تبلغ ذروتها حين يدعيان على حد قولهما : " نقدر الآن أن نستحضر كافة منجزات الإبداع البشري وصهرها في موقدنا وإنضاجها بلهيبنا، نزعم ذلك بكل وقاحة" (موت الكورس، البيانات، 102)
إذن فليس ثمة مشكلة مع التراث أو الأنموذج المكرس، مادام بالإمكان امتلاك آليات استدعاء كافة إنجازات الإبداع البشري، وصهرها باللون الخاص، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في كيفية هذا الصهر، ومدى حرفيته أو قدرته على إسباغ الخصوصية الحداثية على المنتج الإبداعي المراد منه زحزحة المكرس وطرده من دائرة الإبداع، وهذا ما لم يوضح البيان آلياته. وإنما تركه فضاء مفتوحاً لاختبار هذا المنتج الإبداعي من خلال الممارسة النقدية التي ينبغي أن تكون متوازية في الإبداع مع النص الجديد.
وعلى الرغم من أن البيان يستهجن إرهاب الثقافة السائدة، فإنه في الوقت ذاته يمارس إرهاب الإبداع الجديد، إذا يجعله من مهامه المعلنة "مهمتنا أيضاً أن نرعب الآخرين، بخاصة أولئك الذين ينظرون في اتجاه واحد، ويكتبون بطريقة واحدة؟ (موت الكورس، البيانات، 102). ثم لا يلبث أن يستفز القارئ الذي يعتبر هدفه الأول من الكتابة، "ضد القارئ المستهلك.. ضد راحة وطمأنينة القارئ على حساب مصادرة حرية الكاتب "، " لا يعنينا القارئ الذي مثل الأعمى، يسألنا بعد كل خطوة عن المعنى والمغزى، هذا القارئ سنأخذه برفق، وفي صمت إلى أقرب مأوى للعجزة" (موت الكورس، البيانات، 103). إذن ما صفات ومواصفات القارئ الذي يريده البيان ؟ إنه " القارئ الذي يستجوب العالم ويستنطق الأشياء انطلاقاً من الصور الغامضة التي نقدمها إليه بين الحين والآخر.ز تماماً مثل الطفل الذي يلح وميضاً في السماء فينفجر أسئلة لا تحصى في وجه من يحيط به" (موت الكورس، البيانات، 104).
هكذا يريد البيان من القارئ أن يكون طفلاً يسبح في فضاء لا نهائي من الأسئلة التي لا تفضي إلى شيء، وإذا كان مأزق القارئ المؤهل لفض مغالق الرؤية التجريدية الغامضة ينصب على معاناة فك رموز إشكالية الكتابة الجديدة، فإن طرح التساؤل عمن يتوجه إليه المبدع في كتاباته يبدو مشروعاً بل قد يصبح ضروريا وإلا تحول الكاتب إلى أن يكون سجين كتاباته، أو سابق عصره يبحث عن جيل من القراء لم يولدوا بعد.
لكن هذه المشروعية من التساؤل لا تلقى قبولاً عند موقعي البيان، بل تلقى استهجاناً يصل إلى حد السخرية والشتيمة يقول البيان:"لمن نكتب ؟ سؤال داعر، خبيث، جبان يدعو ضمناً إلى القبول، والامتثال إلى المهادنة والتملق، إلى كبح كل خروج عن المألوف، سؤال لا يعنينا بأي شكل من الأشكال، ولا نحترم من يطرحه. (موت الكورس، البيانات، 104) إذا كان السؤال، لا يعنيهم حقاً كما يقول البيان، فلماذا إذن يشغلون أنفسهم بالرد عليه وشتمه وتحقير صاحبه، أليس في هذا تناقض مع مبدأ التساؤل الذي يلح عليه البيان ؟، أليس هذا الإبداع الجديد، الذي جاء يبشر به البيان، واقعاً يقتضي مساءلته والحوار عه ؟! أم أن الحوار ينبغي أن يكون في اتجاه واحد فقط، لا يتجاوزه إلى الاتجاه المعاكس.
ويتجاوز البيان إرهاب القارئ إلى إرهاب الناقد أيضاً، فهو يرى أنه لا شأن له "بالناقد الذي يلج النص بأدوات لا تتجانس مع النص ذاته. نقبل به ونوليه اهتمامنا إذ تجرد من مواقفه ومنطلقاته واستنتاجاته وأدواته السابقة". يعني باختصار أنهم يريدون من الناقد أن يتجرد من الخبرة الإنسانية، والخبرة الذاتية، في التعامل مع الإبداع الجديد، ولكن يكف يمكن أن يتحقق ذلك ؟ فيأتيك الجواب"، أن يحمل معولاً ثقيلاً _ لن نحتال عليه بالقول إنه في منتزه _ لأنه سيجد نفسه في نفق منجم، قد يكتشف ذهباً أو حجراً، المزيد من الأحجار إذا اتكأ على مقولات ونظريات… فسوف يخوض في الممرات تائهاً ولن ننجده بل نتفرج عليه من ثقب ونضحك على ورطته"(موت الكورس، البيانات، 104). أبعد هذا تعال أو سخرية ؟!!
وثمة ملاحظة أخرى لا تقل، عن مستوى لغة البيان إثارة، ونعني بها عنوان البيان ذاته "موت الكورس" أي موت "الصوت الجماعي" بما يحمله من موروثات تقليدية تعوق عملية الإبداع وإفساح المجال لصوت جديد يلح على قيم التفرد والتميز يبدأ من نواة صغيرة ثم تتسع قاعدة هذه النواة لتشمل جماعة "مجلة كلمات" البحرانية وأن الدعوة إلى موت "الصوت الجماعي" لا تنطلق من صوت أحادي، أو فرد في مواجهة الجماعة، بل جماعة في مواجهة أخرى تختلف معها في القيم والتقاليد، ويتجلى ذلك حتى في صيغة البيان الذي يلح على الصوت الجماعي، في سياق دعوته إلى موت "الصوت الجماعي" للآخر، من خلال استخدام نون الجمع التي بلغت كما لاحظ ذلك سعيد السريحي مائة وأربعاً وخمسين مرة. وهذه كثافة أسلوبية في "البيان" تعمق من قيمة الإحساس بالصوت الجماعي المناهض للآخر. (يحيي السريحي، المؤلف وجماعات الخطاب، من خواطر مصرحة إلى موت الكورس – ورقة مقدمة إلى الملتقى الأدبي الرابع لدول مجلس التعاون الخليجي 12 – 14 ديسمبر 1995، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت، ص 7).
إن هاجس الآخر المناهض، والمناهض مستكن في بيان " موت الكورس" إنهم على حد تعبير سعيد السريحي : " هنا وهناك موجودون يحاصرون الذين يحاصرونه ينبثون بينهم يخترقون صفوفهم يشكلون تجمعاتهم التي تنذر بسادتهم القادمة" (المصدر السابق، ص 7) هكذا يرهص سعيد السريحي بسيادتهم، أي بحتمية انتصار "الكورس" الجديد.
ورب قائل يقول : إن الدعوة إلى "موت الكورس" والتجسد في النهاية "بكورس مضاد" سيؤول في النهاية إلى موت "الكورس الجديد" لانشغاله بتكريس ما يدعو إليه من قسم جديدة تجسد الدعوة في قوالب ونماذج جامدة، لا تلبث أن تحتذي وتقلد باعتبارها نماذج عليا في الدعوة الحداثية، وهذا أخطر ما يواجهه الخطاب النقدي، بوصفه حافزاً إلى التمرد والاستفزاز، وقد تنبه الناقد ارفنج هاوIrving How إلى هذا المأزق فقال : "إن الحداثة لا تستعيض عن الطريقة الرسمية السائدة بطريقة أخرى، لأنها تتنكر لدعوتها لو فعلت ذلك، وسيؤدي ذلك إلى توقفها عن أن تكون حديثة، وعلى هذا تطرح الحداثة نفسها باعتبارها إشكالاً يستعصي على الحل نظرياً.. ويتمثل هذا الإشكال في أن الحداثة تناضل بدون توقف غير أنها لا تنتصر أبداً، بل عليها أن تناضل حتى نفسها بعد فترة حتى لا تنتصر، لأن الانتصار يعني النهاية. (Irving How, The Idea of Modern K. in Literature and Arts Horizon Press, New York 1967, p13)
ولم تكن هذه الإشكالية التي يثيرها "هاو" بعيدة عن وعي موقعي البيان، فقد تنبها إلى هذه المأزقية التي قد تهدم فكرة الحداثة من جذورها فدعوا إلى حرية الكاتب في اختيار النموذج الشكلي الذي يتوافق مع طبيعة تجربته الشعرية، فالكاتب عندهما "ليس عبداً للأشكال بل خالقاً وخائناً لها في آن واحد، كل شكل يصير قفصاً في اللحظة التي يثبت فيها ويستقر جئنا لنلهو بالأشكال، نبتكر شكلاً لنحطمه في اليوم التالي، هكذا نبارك حرية الكاتب الداخلية ونمجد سطوته على مخلوقاته" (موت الكورس، البيانات، 103).
لكن ثمة سؤال يطرح في سياق هذه الإشكالية الحداثية، هل يا ترى حقاً يسعى بيان "موت الكورس" إلى تكريس صوت جماعي، ذي سمات فارقة، يكرس روح المغامرة الإبداعية، في الوقت الذي يدعو فيه إلى موت الصوت الجماعي التقليدي ؟، وهل تكفي الإشارة إلى نون الجمع المنبثة في أنسجة الخطاب أنه يسعى إلى تأسيس صوت آخر ؟ ألا يمكن اعتباره صوتاً أحادياً يؤسس لتمايز نوعي أحادي على نطاق واسع يراوغ فيه تكريس الصوت الجماعي التقليدي، ليتحول هذا الصوت الأحادي إلى أن يكون وحده هو الصوت الجماعي في نهاية المطاف، بما يكتشفه هذا الصوت من تجارب جديدة، ومتنوعة في الإبداع، تعلو على الصيغ الجامدة والثابتة، بحيث تصبح روح المغامرة الحداثية هي الصوت الأحادي الممتد بلا نهاية عند المبدع القادر على اختراق سكون الثوابت، وابتداع الجديد، وأنه في النهاية لا يعدو أن يكون مفرداً في صيغة جمع ! أليس هذا ما قد يمكن فهمه من بيان "موت الكورس" ؟ ربما يكون الأمر كذلك، وقد لا يكون، غير أن الصوت الجماعي، على أية حال، لا يجد قبولاً من بعض النقاد، فسارتر على سبيل المثال لا الحصر يرفض أن يكون الشعر صادراً عن صوت جماعي " يقول سارتر : "وتستطيع إذن أن ندرك في يسر مدى حمق يتطلب من "الشعر أن يكون التزامياً.. فالشاعر بعد أن يصب عواطفه في شعره ينقطع عهده بمعرفتها... فلم تعد الكلمات تدل عليها حتى في نظر الشاعر" (جان بول سارتر، مالأدب، ترجمة محمد غنيمي هلال، مكتبة الأنجلو المصرية، 1971، ص 14).
وإذا كان بيان "موت الكورس" يعتبر أول خطاب نقدي يظهر على الساحة الثقافية في الخليج في مطلع الثمانينيات ينطلق من مفاهيم حداثية معاصرة، فإنه حتماً ليس أول خطاب نقدي على الساحة الثقافية العربية فقد سبقته في هذا المجال خطابات أخرى من أهمها "بيان الحداثة" لأدونيس عام 1979، بيان الكتابة لمحمد بنيس عام 1980، ومن الطريف أن بيان "موت الكورس" قد ضم إلى هذين البيانين في إصدار واحد، صدر عن مجلة "كلمات" عام 1993م، تحت مسمى "البيانات" بوصفها جميعاً تحمل رؤى مشتركة في توجيه الإبداع الحداثي في الشعر، والعمل على تأسيس الحساسية الجديدة للكتابة.
وإذا كان هناك من يرى في هذا البيان "محاولة لبلورة مفهوم الخطاب في الدرس النقدي على نحو لا يغدو بعده الخطاب درساً نقديا" (يحيي السريحي، المصدر السابق، ص 7) فإنه من الصعب الدليل على أن مفهوم الخطاب النقدي يملك آليات وأدوات الدرس النقدي القادر على ارتياد آفاق العمل الإبداعي، والكشف عن أغواره، وإبداعاته بإبداع آخر يتوازى معه، لأن الخطاب النقدي، يقف عند مستوى التنظير، ولا يملك أدوات اختبار هذا التنظير، وإنما يأتي الدرس النقدي بكل آلياته ليختبر مدى صدق هذا الخطاب، وانسراب عناصره في الأعمال الإبداعية، وعلى هذا فليس ثمة تعارض بين الخطاب والدرس النقدي، وإلا ستبقى دعوته إلى التغيير مطلقة من غير اختبار لصدقها، أو حتى اختبار مدى صدق حساسية المرحلة التي أفرزتها تجاه التقاليد والأشكال الراسخة في النظام السائد.
وعلى الرغم من أن بيان " موت الكورس" يحاول أن يؤسس له خصوصية معينة تنبع من واقعه الثقافي الذي تتسارع فيه إيقاعات الحياة بصورة مذهلة أزالت فيها كل الحواجز المعرفية التي تحد من التفاعل مع الثقافات الأخرى، فإني أعتقد أن البيان في جوهره _ لا في لغته أو أسلوبه _ لا يبعد كثيراً عن بيان الحداثة لأدونيس، وإن كان بيان أدونيس أكثر رصانة، وأرقى حواراً في تعامله مع النص المضاد، فالحديث عن الرؤيا والحدس والغريزة والحلم والباطن في تشكيل التجربة الشعرية، والحديث عن مساءلة الواقع والحديث عن ممارسة الكتابة الإبداعية وقوانين التعامل معها، والحديث عن الكشف، أو الاكتشافات، للوصول إلى الخفي بقوة الحلم والمخيلة، والحديث عن اللغة الإبداعية، اللغة الطفل، وصهر العناصر أو التجارب المستخدمة في بوتقة نار الإبداع وإكسابها خصوصية المبدع، كل هذه العناصر الواردة في هذا البيان تستمد جذورها من كتابات أدونيس في "بيان الحداثة" (أنظر بين الحداثة في كتاب أدونيس، فاتحة لنهايات القرن، دار العودة، بيروت، 1980، 313 – 340، محاولة لتعريف الشعر الحديث، مجلة شعر، العدد 11، السنة الثالثة، صيف 1959، بيروت 79 – 90)، ومن كتابيه "زمن الشعر" و"فاتحة لنهايات القرن" "غير أن ما يميز هذا البيان عن آراء أدونيس هو الموقف من التراث أو النص الأول نموذجاً حسب تعبير البيان، فالحداثة عند أدونيس لا تعني القطيعة مع التراث، بل تنبثق من قديم هي في تعارض معه بمعنى أن فهم القديم وتمثله، وسيلة لتجاوزه، ولذا يؤكد أدونيس على هذا المفهوم حين يقول : "إن حداثة الشعر العربي لا يصح أن تبحث إلا استنادا إلى اللغة العربية ذاتها وإلى شعريتها وخصائصها الإيقاعية التشكيلية وإلى العالم الشعري الذي نتج عنها" (أدونيس، فاتحة لنهايات القرن، ص 338). فالموقف عنده كما نرى ليس قطعة آلية أو مطلقة مع اللغة أو التراث، وإنما قطيعة جدلية لا يترتب عليها أن تفقد اللغة ذاكرتها التراثية، وإلا تحولت إلا انقطاع وانعزال وشطح واغتراب متعال عن حقائق الواقع والحياة (محمود العالم، لغة الشعر العربي الحديث، في كتاب قضايا الشعر العربي المعاصر، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1988، ص 48) ويفترق صاحبا البيان في هذا المفهوم عن أدونيس في نظرتهما إلى النموذج السائد. إنهما يدعوان إلى الثورة على كل شيء والتحرر من كل شيء، "نسعى إلى التحرر من القوانين والمفاهيم التي تؤطر وتحدد كل كتابة. جئنا لنلهو بالأشكال، نبتكر شكلاً لنحطمه في اليوم التالي" (موت الكورس، البيانات، 103)
هكذا يتبلور مفهوم الحداثة، في نهاية المطاف، عند قاسم حداد، وأمين صالح ليصبح كتابة بلا مرجعية تستند إليها، ولا قوانين تؤطرها، وأشكالاً فنية تبتكر اليوم لتحطم في اليوم التالي، في محاولة منهما لارتياد آفاق جديدة من الاكتشافات والسعي وراء مطلق لا غاية له، ولا نهايات مميزة (Irving How, Ibid, 18) ومن الجدير بالذكر أن معظم كتابات قاسم حداد النقدية اللاحقة لهذا البيان تنطلق من ذات المفاهيم الحداثية التي يعالجها البيان، فكأنها ليست إلا تفريعات إضافية تفصل ما أجمله بيان "موت الكورس" وتعكس في الوقت ذاته تطور أفق التجربة النقدية عند الشاعر في دعوته للحداثة الشعرية. ومهما يكن من أمر فإن هذه الدعوة الحداثية للتجريب لم تصدر عن فراغ وإنما سبقتها محاولات من التجريب المتواصل في الإبداع الشعري _ كما قلنا _ عند قاسم حداد بوجه خاص، وجماعة مجلة "كلمات" بوجه عام مما دفع في النهاية إلى بلورة صيغة خطاب نقدي جديد لا ينفصل عن التجربة الإبداعية، بل يصدر عنها، ثم يتجاوزها وتتجاوزه، ولا يتأتى ذلك إلا إذا كان التنظير والتطبيق في تواز معاً، تتدافع جميع عناصرهما باتجاه المغامرة الإبداعية لحظة التوهج، وإذا افترضنا صحة هذا، ولعله كذلك، فهل يا ترى نجح قاسم حداد في المحافظة على هذا التوازن بين التجربة والخطاب في مسيرته الإبداعية ؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه من خلال المقارنة بين التجربة الإبداعية عنده والخطاب.


الموضوع سيتم إكماله في الحلقة القادمة

مع خالص حبي وتقديري

محمد
 
رد: مختارات من قلب الحب.. قاسم حداد

ديوان قلب الحب يعتبر الديوان الرابع لهذا الشاعر المبدع
والمجموعة الكاملة لشعره حصيلة جميلة وثرية وراح تتعرفين على التطور الشعري الجميل الذي واكب شعره.
أنا الآن أضع دراسة كتبها الدكتور عبدالله أحمد المهنا بعنوان الخطاب النقدي عند قاسم حداد وصلتها بتجربته الشعرية نقلتها من الصفحة الإلكترونية للشاعر نفسه ولأن الدراسة طويلة نوعاً ما ففضلت أن أنشرها على حلقات لكي يقرئها جميع الزوار والأعضاء وتعم الفائده.

مع خالص حبي وتقديري

محمد
 
رد: الخطاب النقدي عند قاسم حداد و صلته بتجربته الشعرية

نواصل نقل الحلقة الثانية من هذه الدراسة القيمة للدكتور عبدالله أحمد المهنا لأعضائنا وزوار منتدى كلمات الشعر

الخطاب النقدي عند قاسم حداد و صلته بتجربته الشعرية

الكاتب: الدكتور عبدالله أحمد المهنا



الحلقة (2)

[align=justify:da744ba135]منذ صدور أول مجموعة شعرية للشاعر قاسم حداد "البشارة" عام 1970 م والشاعر ما انفك يواصل تجاربه الشعرية حتى بلغت مجموعاته الشعرية إحدى عشرة مجموعة (منذ عام 1970 وحتى عام 1997) كانت آخرها مجموعة "قبر قاسم" التي صدرت عام 1997، فضلاً عن ذلك تلك الكتابات النثرية العديدة ذات الصلة بالجوانب الإبداعية والنقدية، التي تحاول أن تؤسس للاختلاف من منظور التغاير مع السائد والمهيمن، والخروج على التناظر الحاد، والنمطية الجاهزة لا على مستوى الإبداع الأدبي فحسب وإنما يمتد ذلك ليصبح جزءاً من نظرة شاملة تتضمن الإنسان والحياة، والزمان والمكان، ومن هنا كانت الدعوة إلى الشك في كل شيء، وإخضاع الواقع إلى المساءلة، والدعوة إلى التمرد والثورة على البنى التي تحكم هذا الواقع، وتسير نظمه وفق المألوف والسائد والمكرس والمتعاليات، وغيرها من العناصر التي تستمد وجودها من الماضي، وتعمل في الوقت ذاته على إشاعة روح الطمأنينة في النفوس، والركون إلى الصمت والحجر على العقل، وقتل روح الإبداع، واغتيال الذات، أو قمعها في أحسن الأحوال، كل هذه العناصر مجتمعة أو متفرقة كانت وراء صياغة نفس ثائرة متمردة ترفض المهادنة أو الخضوع للتهديد أو السلطة أو الابتزاز أيا كان نوعها أو مصدرها، فمضت تمعن في هذا الواقع تأملاً وتشريحاً وتفكيكاً متخذة ممن الحلم طريقاً تنأى به بعيداً عن التلوث والتفسخ والخرائب، شاهقة في بهاء الكون، منتشية بلذة الاكتشاف ورجفة العناصر لحظة الاتصال (موت الكورس، البيانات، ص99).

إن المتأمل في شعر قاسم حداد، في مجموعاته الإحدى عشرة، يلحظ خيطاً فكرياً ينتظم معظم أنسجة تجاربه الشعرية ويكوكبها في بؤرة ارتكازية محورها الذات والواقع، لا بالمعنى الضيق لهذا الواقع وإنما بالمعنى الشامل ن لكل ماهو مفروض بحكم الممارسة التقليدية، مكونة بذلك موقفاً إنسانياً مثقلاً بالتصورات والأحلام وال،أخيلة الذاتية التي تحاول بها الذات اختراق حواجز الواقع، وقوانينه الصلدة، بحثاً عن فضاء يستوعب أحلام الذات ورؤاها. في عالم يفتقر إلى أبسط معاني العدالة والحرية، ويعمق في الوقت نفسه إحساس الذات بوعيها، وبالآخر الذي تنفصل عنه تارة وتمتزج به تارة أخرى، لتمعن مرة أخرى في الابتعاد عنه، محققة بذلك جملة من أنواع الوعي، تظهر عبر الحس والعاطفة وأحلام اليقظة (عبدالكريم حسن، المنهج الموضوعي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1990، ص95)، والرؤى المضمرة وغير المضمرة، ولذا كانت حوارات الذات، مع نفسها أو مع غيرها، تمر عبر تلك النوافذ المشرعة، على مدى سنوات تجاربها مع الواقع، جاعلة من هذا الأخير هدفها الأسمى نحو التغيير، ويتم ذلك كله في إطار نزعة التمرد التي تستولي على الذات في نظرتها إلى الأشياء من حولها، وسنرى بعد قليل جملة من تلك الحوارات التي تتلاءم بصورة أو بأخرى ما ينادي به بيان "موت الكورس".

1 - الذات ونزعة التمرد

تنحو مدلولات ألفاظ الثورة والدم، والهدم، والطوفان والماء، والنار والحرق، والرماد، وشهوة الفوضى، وغيرها من الألفاظ والعبارات الشائعة في قصائد قاسم حداد، الى تأسيس موقف رافض لكل شكل من أشكال السلطة المكرسة بحكم الواقع لا العقل، صادر عن إحساس عميق بقيمة الإنسان، الذي فرض عليه أن يواجه عالماً مملوءاً بالقهر والعسف والظلم، عالماً تغيب فيه العدالة في خضم الممارسات والسلوكيات السلطوية الخارجة على نطاق العقل، والمنطق السوي، مما دفع باتجاه التمرد والثورة والإصرار على تغيير هذا الواقع ولو بوسائل الحرق الشامل لكل مقوماته، وإعادة بعثه من جديد، إذ بنظرة واحدة، كما يقول قاسم : " نستطيع أن نكشف مقدار البشاعة والظلم والوحشية التي يتدهور إليها الواقع والإنسان معاً، ثمة أحداث تجري تؤكد أن الإنسان لا يتغير، الطيب والشرير، والجميل والقبيح، إذا ولدوا بهذه الصفة يواصلون ذلك حتى الموت، الإنسان الأول لا يزال يتحكم فينا." (قاسم حداد، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر، دار القرطاس، الكويت 1997، ص57) ومن الجلي هنا أن قاسماً يصدر في رأيه عن إحساس واع بنبض إيقاعات العصر، وما يطرحه من تحديات وإشكالات لم تعرض للإنسان القديم، ولا يعني هذا أن الشاعر كان يستنسخ فلسفات التمرد الغريبة، المتكئة على العبثية والعدمية والنزعة الإلحادية كالتي نجدها في أعمال نيتشه، وكامي، وسارتر وسيمون دي بوفوار وغيرهم، وإن كانت بعض عناصر هذه الفلسفات تنسرب في بعض قصائده، بصورة واعية أو غير واعية، لكنها لا تغير النزعة العامة التي ينطلق منها شعره، وهي البحث عن عالم آخر يستوعب رؤى الذات في صراعها مع الواقع، ولذا كانت رموز النور والشمس والبحر والمرأة والأطفال والنخل والماء، مؤشرات المستقبل التي يراهن بها الشاعر على عفن الحاضر، ومكرسات الماضي، وبقدر ما تزداد التحديات المعاكسة لإرادة المستقبل يمعن الشاعر فضحاً وتشريحاً لهذه القوى المعاكسة التي لا يجد حرجاً في نعتها بنعوت جارحة، تبلغ أحياناً درجة عالية من السخرية والشتيمة، في كتاباته الشعرية والنثرية على حد سواء، وقد رأينا بعضاً منها في نماذج هذه الدراسة.

إن نزعة التمرد في الذات المعاندة لحركة اللا معقول من حولها تستند في مرجعيتها أساساً إلى توهج الذات بقيمة الإنسان، في هذا الكون، ودوره في صنع الحياة، والتمرد في حد ذاته ليس نفياً فحسب بل تحدياً ومعارضة ضد وضع من الأوضاع (جون كروكشانك، ألبير كامي وأدب التمرد، ترجمة جلال العشري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص149)، يتكرس في النهاية كموقف تعرف به الذات المعارضة، لتحمي نفسها من الانحراف وراء مغريات الواقع، أو القبول بمعطياته الآلية، التي تغتال حواس الإبداع، وتحيل الإنسان إلى جزء من آلة صماء تطحن في داخلها رحى الحياة، ولذا كان نفي الواقع أو التحلل من تبعاته، والتمرد على أبنيته التقليدية، بداية الإحساس بالحرية، والتوتر، والقلق، وهي العناصر المفضية في نهاية الأمر إلى التحدي والمجابهة :

في حل من الأسماء
في حل من اللغة الكسيحة والهوى
من زعفران المحو، من جبانة تمشي
وفي حل من الحرب التي غدرت بأسلحة المقاتل
من جدائل طفلة موءودة
من أمة لا تقرأ التاريخ
في حل أنا من ميتين يواصلون الموت
في حل
سأمسك دفتي بيدين من نار وماء
أحتمي في مذبحي، وأصير أغنية النفور (قاسم حداد، يمشي مخفوراً بالوعول، لندن 1990، ص66)

في هذا النص يتجلى الحس الفردي في أعلى درجات تمرده على الوعي الجماعي، وعلى الثقافة وتاريخ الجماعة بصورته النمطية، وهذا المحور أو الإلغاء أو التخلي عن ثقافة الانتماء، لا يأتي لمجرد الاختلاف فحسب بل يأتي تأكيداً لناقض الرؤيا الجديدة مع السائد ونفورها منه، كما يمنح الذات مساحة من الحرية تحقق فيه، بعيداً عن تأثيرات الآخر، شهوة التمايز النوعي، وسط سلطة ثقافية طاغية تفرض وجودها عبر منافذ مختلفة. ويرى قاسم في مكان آخر أن مسألة الانتماء في المجتمعات المختلفة تأخذ منحى وحشياً يبلغ حد العبودية، التي لم تنجح أقنعة الحضارة في إخفاء وحشيتها وطفحها بالمهانة والإذلال (قاسم حداد، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر، ص112)، لذا نرى الشاعر يبدأ في تفكيك عناصر هذا الانتماء واحداً واحداً ليحمي نفسه من هذه العبودية التي يشير إليها، فيرفض من جملة ما يرفض "الأسماء" من غير أن يحددها، وفي ذلك توسعة دلالية لتشمل كل النماذج التراثية ذات السطوة الثقافية، كما يبرأ من اللغة الموءودة، المهدرة بكثرة الاستخدام، وسوف نفصل فيما بعد موقفه من اللغة ومواصفات هذه اللغة التي يترسمها وعاء للإبداع الجديد، ثم تتوالى بعد ذلك عناصر التبرء لتشمل عدداً من الممارسات ذات الطبيعة الخاصة بالجماعة، ولعل أكثرها سخرية صورة "محو الزعفران" ذات الصلة بالطقوس السحرية التي يستجلي بها العامة أحداث المستقبل، ومن الصور الساخرة أيضاً صورة جدائل الطفلة الموءودة، في إشارة إلى الموقف السلبي من المرأة، ولعل في ذكر هذه الأشياء ن وتحديد بعضها تحديداً قاطعاً ما يشير إلى أنها مسمرة في بعد آحادي يتعارض مع حركة المستقبل، وطبيعة الحياة ذاتها.

ومهما يكن من أمر ن فقد تبدو الذات، من هذا المنظور، معزولة عن الحياة أو بالأحرى منعزلة _ إذ لا نرى إلا صوت الذات من خلال شبه الجملة النحوية التي تسيطر على النص سيطرة مطلقة، تأخذ فيها لفظة "حل" المقترنة بحرف الجر "في" بعداً أساسياً في تكوين وبلورة صور عدم الانتماء الذي يؤكد عليه النص _ غير أن الأمر ليس كما يبدو للوهلة الأولى، عزلة أو تمرد سلبياً بل محاكمة للواقع وفضحاً لممارسات التخلف التي تأخذ شكلاً طاغياً كأسلوب حياة، ولذا تنأى الذات بنفسها عن أن تنخرط فيه، محتمية بأدواتها الرمزية، الماء والنار، وسيلتي التطهير الأسطوري، اللتين تمنحان الذات شعوراً بقيمتها الحياتية كرمز للسخط على انحرافات الواقع.

وتجنح الذات، في قمة الغضب والانفعال، تحت وطأة الواقع إلى اتباع أسلوب إشاعة الفوضى في النظام لإرباكه، وخلخلة بنائه، ولفت الانتباه إلى ما يمكن تحقيقه بالتمرد والفوضى :

تعال نفض الفوضى ونوزعها في لبن الأطفال
ونمزجها بجنون العقل
تعالى نؤسس رفضا في النبض
وومض الأرض
ونغوي الشهوة بالغزو وحلو اللهو
تعال نشكل لفظ الحرف ونكسره
ونغرر بالكلمات المتزنات ونغتصب العذراء
نولدها أجمل ما تحمل (قاسم حداد، القيامة، بيروت 1980، ص100)

تأخذ الدعوة إلى الفوضى والتمرد، في هذا النص بعدا فنيا تتجاوز فيه الذات نفسها إلى الآخر، بحفزه وتحريضه على التمرد، واعتبار مؤسسا جوهريا في صناعة المستقبل، ويتم ذلك من خلال إدخال المخاطب في شبكة النص ومحاورته بطريقة تحفيزية تتكئ على عامل الإغراء النفسي، المضمخ برائحة الجنس التي تفوح من عبارات النص، ودعوته إلى الدخول مع الذات في مغامرة تفجير الواقع، وفق برنامج ذي خطوات محددة، يكفل تحقيق عناصر التمرد في البنية الحياتية والنفسية للإنسان، منذ جذوره التكوينية الأولى.

ويبدأ البرنامج بالدعوة إلى فض الفوضى، وتوزيعها في حليب الطفل، وعلى الرغم من وجود علاقة دلالية بداهية تجمع بين الفعلين "فض" و "وزع" سواء قبل البنية التركيبية للنص أو بعدها، فإن إيحاءات الفعل فض تبقى حاضرة كدلالة لعملية اختراق المحظور، فتتراسل في اللاوعي مع افتضاض عذرية المرأة، كقيمة لها حساباتها الخاصة، ومن هنا لم تكن الفوضى المطلوب توزيعها في لبن الطفل فوضى عادية، بل فوضى مركبة، ممزوجة بجنون العقل، لكي تتوازى مع لا معقولية الواقع، وبالتالي يصبح المحظور مبرر الانتهاك من منظور الشعور بالعبودية، أو حين لا يجري التعامل فيه مع الناس إلا باعتبارها _ كما يقول قاسم _ حيوانات فاطسة (قاسم حداد، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر، ص168).

وهكذا تأتي الفوضى اختراقاً للسائد، وتأسيساً للرفض كمكون فطري ينساب في شعور الإنسان مع الرضاعة، وينمو مع نموه، ومن هنا ندرك لم كان هذا التركيز على توزيع الفوضى، أو الرفض، في لبن الطفل في مواجهة قيم الجماعة القاهرة.

ويبقى فعل الأمر "تعال" المتكرر في بنية النص محتفظاً بوقعه الإغرائي في جر المخاطب إلى السعي لتأسيس الرفض في العروق، وشحن الأرض بالبروق المنبئة بالثورة، وتحريك الشهوة باتجاه الغزو، ولفظة "الغزو" في سياق الشهوة، التي يحتفي بها النص، عميقة الدلالة على فعل الاختراق والتجاوز، وصدع النظام في المكرسات، ولعل المثير حقاً في هذا النص هو ذلك الربط بين "الغزو وحلو اللهو" من منظور إغواء الشهوة بالتحرك في الاتجاهين، كما لو كان الغزو ذاته لا يختلف فطرياً عن شهوة اللهو ومتعته.
ويمتد أفق التمرد عند الذات ليطال الأسلوب التشكيلي للغة بدءاً من الفونيم، الجذر المؤسس للكلمة إلى الكلمة ذاتها، إذ يكمن في هذا الفونيم أسرار التركيب الإبداعي للغة، ولنتأمل في النص تفجرات فونيم الضاد في الكلمات "نفض" و"الفوضى" و"رفضا" و"النبض" و"ومض"، و"الأرض" وتفجرات فونيم الجيم في كلمتي "نمزجها" و"بجنون"، المتواليتين، وتفجرات فونيم الواو، في كلمات متتالية، "تغوي"، "الشهوة" "نغزو"، "حلو"، "اللهو" حيث يأخذ تراسل الحروف، عبر التركيب البنائي للكلمة في الانفتاح على دلالات مختلفة، ومن هنا كانت الدعوة إلى تشكيل الحرف وكسره، في النص، تأكيداً على قدرة اللغة على التوالد اللا متناهي من الأصوات والكلمات التي تنتظم في تشكيلات مختلفة، وهذا يعني قطيعة مع المنتج الجاهز للغة، وقسر اللغة على قول ما لم يقل من قبل، ولذا كان رمز "اغتصاب العذراء" في النص، يشير إلى قدرة المرموز إليه (اللغة) على الاستجابة لمقتضيات هذا الاغتصاب بمنتج أجمل مما سبق، ويذكرنا هذا المفهوم عن اللغة عند الشاعر بقول أدونيس، في "بيان الحداثة" إن على الشاعر الجديد أن يرتبط باللغة الأم، لا بنتاجها، ولئن كان يولد من الرحم الواحدة أبناء يتناقضون في كل شيء فبالأحرى أن يكون في اللغة أيناء لها يتناقضون كتابياً " (أدونيس، بيان الحداثة – الثاني – البيانات، ص49).

ولا تتردد الذات أبداً في الكشف عن هاجس الهدم الذي يهيمن عليها في لحظات ذروة الغضب من الأوضاع المحيطة بها على نحو يكشف عن عمق المعاناة التي تكابدها في مسيرة الدعوة إلى تجاوز الرموز التقليدية للحياة :

أنا شهوة الهدم
كل السلاطين أحذية للغزاة
تساءلت : هذا مضيق يبرز خنا بين فخذيه
أم يستبينا (قاسم حداد، الدم الثاني، دار الغد، البحرين، 1976، ص13)

بهذه البساطة اللغوية البالغة حد العفوية تضع الذات نفسها بصورة مباشرة أمام الموقف، من غير مواربة، أو التفات عليه، فليس الهدم شهوة طارئة عندها يمكن أن تتجاوزها، بل غريزة أو نزعة في فطرة تركيبة التمرد عندها على البنى السلطوية من حولها، ولعل في البنية التركيبية لمطلع جملة النص الشعري، المكونة من مبتدأ وخبر ما يعزز من هذا المفهوم الذي يرسخ شهوة العنف التي تدفع باتجاه الجارح من القول في جرأة بالغة، تجلب النظر إليها، بوصفها بنية لغوية ذات دلالة إيحائية يتجاوز فيها الدال مدلوله ليصبح دالاً لمدلول أبعد، كما يتجلى ذلك واضحاً في عبارتي السطرين الثاني والثالث من الخطاب، فالعبارتان لا تعنيان ما تقول بالمعنى الحرفي، وإنما تتجاوزان ذلك إلى المعنى الإيحائي المرتبط بالنظام الترميزي للغة، لتشيرا إلى حالة الاختناق السياسي، الذي تغيب فيه الحرية، ولذا جاء تساؤل الخطاب عن حالة الموقف مشوباً بالسخرية والمرارة.

وفي قصيدة "تحويلات طرفة بن الوردة" محاولة لاستيحاء نزعة التمرد في شخصية طرفة التراثية، وإسقاطها على الذات، فيتم في إطارها استغلال الطاقات الإيحائية، والإشعاعات الرمزية التي تثيرها العلاقات الجدلية في المحيط الاجتماعي للشخصية التراثية، إذ تنصهر في بوتقة التجربة الشعرية المعاصرة فلا يبقى منها ما يدل عليها (يلجأ الشاعر خشية ضياع ملامح الشخصية التراثية في نصة الشعري إلى استخدام ضيغة نثرية في صلب النص الشعري تذكر بالحادثة التاريخية التي أدت إلى مقتل طرفة، من غير أن يشير صراحة إلى اسم طرفة، ومهما يكن من أمر فإن هذه الصيغة النثرية المقحمة على النص ليست بذات قيمة أو دلالة، بل تكاد تفسد عملية إنصهار الشخصية المعاصرة بالشخصية التراثية في الثورة على العصر) إلا اسم الشخصية التراثية الذي لم يسلم أيضاً من أن يطاله التحوير، فطرفة هنا ليس طرفة بن العبد بطموحاته التي لا تكاد تتجاوز ذاته، بل هو طرفة بن الوردة، الذي تتسع أمامه آفاق الرؤيا فتشمل الذات والمرأة، والأرض، والليل، والشمس والصحراء، والسيف، والثورة، والكلمة واللغة، في منظومة واحدة تترجم أحاسيسه المفعمة بالتمرد على مظاهر الحياة من حوله :

شارد، شهوتي العنف. تَجَرَّع لغتي
صرخة في الليل، في الصحراء ماء
كنت مرسوماً على الضوء. وكنا نشر الضوء
معاً
قلت تاريخي رماد، وتراثي دمي المخلوع (قاسم حداد، الدم الثاني، ص73)

إن التمحور حول الذات، وكشف أحاسيسها المترعة بالعنف إلى درجة الشهوة الغريزية، لا يعني تعالياً على الجماعة، بقدر ما هو إحساس فائض من الوعي يحدد علاقة الذات بنفسها من جهة، وبالأشياء، أو بالعالم حولها من جهة أخرى، فالإحساس بالشرود، قد يوحي بالنفي والرفض لكنه يعمل على استنفار كل طاقات الوعي في الذات لتبرير نزعة العنف، وإعادة بناء الأشياء، أو استعادة بنائها، كما هي في شقيها السلبي والإيجابي وقد تبدو الكينونة التي يشير إليها الخطاب، في سياق الوعي الذاتي، مسؤولة عن تلك النظرة السلبية إلى الماضي التي تدفع باتجاه القطيعة التامة مع كل ما لا ينتمي إلى العصر، ولعل معطيات الضوء، ومعطيات الليل والرماد كفيلة بتجلية تلك المفارقة الحادة في وعي الذات بالحياة وصراعها معها، فطرفة المعاصر يفتقد مرجعيته التاريخية، أو بالأحرى يرفضها لعدم قدرتها على استيعاب تجربته، أو عدم تعاطفها على الأقل من معاناته، ومن هنا يصبح دمه المهدور هو تراثه، وهو هويته التي يواجه بها تحديات العصر.

ومع أن عناصر الأمل والتفاؤل في عالم مختلف تشيع في أكثر من مكان في قصائد قاسم حداد، كما نجد ذلك واضحاً على سبيل المثال في رموز الخطاب السابق، فالصحراء تختزن الماء، والذات مرسومة على الضوء، والضوء يشرب منه الجميع، لكنه أمل لا يضرب بعمق إذ تبقى حالة الإحساس بغياب الوعي عند الجماعة طاغية على ما سواها مما يرفع من درجة المواجهة والتحدي، التي تبلغ أحياناً حد الشتيمة :

إن كنتم مقتنعين بأن الشمس غداً
تشرق باسم القانون
إن كانت أقدام الطفل تضيع بأحذية السلطان
وأن الطلقة ضائعة
إن كنتم منسجمين معاً
في نوم الحلم الأول
والنوم صلاة الزمن الواقف
لا تنتبهوا
سيجيء زمان الصحو
يا أبناء وحيد القرن (قاسم حداد، الدم الثاني، ص96)

لاريب في أن عناصر الخطاب وبنية تشكيلتها اللغوية، المعتمدة على الصيغة الخبرية، في رسم درجة الاختلاف بين الذات والجماعة، توحي بعمق درجة هذا الاختلاف في الرؤيا، والوعي، فالجماعة تؤثر السلامة، من منظور الوعي السلبي المرتكز على التجربة في اللا جدوى من القفز على معطيات الواقع، إن التعارض بين القناعتين يمنح الذات تداعيات ذهنية تفجر فيها الموقف عارياً بصورة حادة تكشف عن أبعاده الحسية، في صلب جوهر الممارسة الذاتية لاحتمالات التغيير، وأبعاده المستقبلية، وتنشط في الوقت نفسه في خلخلة قناعات الجماعة باعتبارها من أوهام الغيبوبة التي تستحوذ عليهم، براحتها النفسية مجنبة إياهم المتاعب، ولذا كانت عبارة "إن كنتم مسنجمين معاً... " عبارة حافزة لدفع المخاطب إلى تأكيد أو نفي الاتهام، ومثلها في ذلك كل العبارات التي تدور في فلك الجملة الشرطية، التي تهيمن على أنساق الخطاب، حاملة دلالات سلبية على غياب الوعي عند الجماعة.

قد يبدو من بنية صيغة الخطاب في سياق جملة الشرط محاولة للإبقاء على روابط الذات بالجماعة، من منظور الاختبار النفسي لموقف الجماعة من حالة الجمود، غير أن تداعيات الغياب تدفع الذات إلى الانفعال، الذي يبتر خيوط هذه العلاقة، فتصرخ " لا تنتبهوا " وهي عبارة كافية على بيان حس المفارقة في الرؤيا، بيد أن النزوع إلى المستقبل يطغى على الحس، لتصبح حتمية التغيير، أو لحظة الصحو، قادمة مع الزمن "سيجيء زمان الصحو "، هكذا ترهص الذات بالآتي، عن قناعة راسخة، مشوبة بحفز الغارقين في أحلام النوم عن حركة العصر إلى الانتباه، فتصفهم بـ " يا أبناء وحيد القرن "، وهو تعبير لا يثير دهشتنا وغرابتنا في ربطه بعناصر النوم، والحلم، والزمن الواقف إلى غير ذلك من العناصر التي تصب في مجرى الغياب والجمود، إذ تؤكد الذات هنا على تفردها في هذا القرن في الخروج على سلطة الموروث والمكرس والمتعاليات الثقافية، وهذا الإحساس عندها قد يبلغ من الحدة ما يجعلها تصرخ في أسى أنها في حل من التنظيم، وأنها تمشي خارج التقويم، كما سنرى ذلك بعد قليل، هذا إلى أن قراءة أخرى لهذا التركيب المثير قد تنصرف مباشرة إلى القرن ذاته باعتباره قرناً لا نظير له في التزامه بالجامد والموروث، ومهما يكن من أمر، فإن هذا الوصف لا يعدم أن يثير بعض التصورات الذهنية الأخرى، التي قد تخرجه من دلالاته إلى دلالات رمزية أخرى، بيد أن النظر إليه في حدود حرفيته أقرب إلى حالة الحنق والإحباط التي تعتري الذات في موقفها من الجماعة.

ويتصاعد الإحساس عند الذات بالانفصال حتى عن الجماعة، التي كانت تعول عليهم كثيراً في مسيرة التغيير، وبخاصة حين تراهم يتحولون ضدها مؤثرين الراحة على الدخول في متاهات الحلم، وتهويمات النفس في شيء قد لا يأتي أبداً :

يا أصحابي
يا من كانوا
يا من حولهم حقد الحب النائم
سيفاً آخر في ظهري
من ينقل هذا الوقت عبر الدم ؟
من يعرف _ يا أبناء اللغة الملعونة _ حجم الهم ؟
فليتعلم أصحابي
أو من كانوا
أن الكلمات الملعونة جرح في حلم الإنسان
لكنّ الفعل دواء لا يخطئ
فالفعل دواء لا يخطئ
إن كنتم منسجمين معاً
قولوا
من منكم يا أبناء وحين القرن
من يعطي هذا الوقت الواقف لونه ؟ أسألكم (قاسم حداد، الدم الثاني، ص100 ومابعدها)

إن إحباطات الذات، كما تتجلى في أنسجة الخطاب المفعمة بنبرات الأسى، والغضب، تدفعها إلى تحليل الموقف، والكشف عن المواقف الهشة في أفق التجربة الإنسانية مع الحياة حين تتداخل عناصر القول والفعل فلا تستبين أبعادهما في ذهن الجماعة، بوعي، أو بغير وعي، وهنا تتدخل الذات لتمسك بخيوط الموقف من جوانبه المتعددة، وتسكن في حركته وصراعه، مدفوعة بمبادئها المتكئة على الرفض لفكرة المهادنة أو الخضوع حتى لخاصتها من الجماعة، حين تختلف معها في الرأي والموقف.

وتأخذ جملة النداء، في هذا السياق، بعداً جوهرياً في رصد حركة التحول والتداعي، والاستدعاء في بنية النص الشعري، فالمنادي المنسوب إلى ياء المتكلم. "يا أصحابي " ينطوي على علاقة حميمية، يتذكرها المتكلم محاولاً الإبقاء عليها، غير أن تداعيات الموقف وضغوطه، تدفعه إلى مراجعة هذه العلاقة، ووضعها في إطارها الصحيح " يا من كانوا " إذ لم يعودوا أصحاباً بالمعنى الذي تريده الذات، ومن هنا كانت الذات حريصة على ألا تصل إلى هذا الاستنتاج إلا عبر المرحلة التي قبلها لبيان مدى الإحساس بالفقد، والأمل في عودة هذه العلاقة إلى سابق عهدها، إذ أن الذات لم تؤثر على جملة النداء السابقة عبارة أخرى كأن تقول بصورة مباشرة "يا من كانوا أصحابي " ولو فعلت ذلك لكان المعنى مختلفاً، وخارجاً عن إطار اللحظة الراهنة التي يرصد الخطاب تحولاتها المفجعة، ولذا كانت أفعال الخطاب تتوزع بين الفعلين المضارع والأمر لتكثيف تداعيات اللحظة الراهنة، على الرغم من أن المحيط السردي للخطاب ينطلق من الماضي، بيد أنه ماض وثيق الصلة بالحاضر، موضوع الخطاب، ولذا كان قلق السؤال منصباً بصورة مباشرة ومتكررة إلى احتمالات الحاضر، "من ينقل هذا الواقف عبر الدم "؟" من يعطي هذا الوقت الواقف لونه " ؟

وغني عن القول، أن السؤال هنا ليس مجرد بنية لغوية في نسيج النص فحسب، بل هو جزء جوهري من البنية النفسية، التي تصدر عنها الذات، باعتبار وسائل العنف، سواء كانت محواً أو حرقاً، أو طوفاناً، أو دماً، هي الطريق الوحيد لتغيير الحاضر، وعلى هذا فليس غريباً أن نرى الشاعر في موضوع آخر يؤكد على هذا الخاطر بصورة لافتة :

وقد كانت الأرض مشتاقة للدماء
وقد كانت الأرض مشاقة
وقد كانت الأرض (قاسم حداد، الدم الثاني، ص27)

وبتأكيد فاعلية الدم في علاقته بالأرض، التي يمثل لها بالشوق، كعلاقة غائبة في بنية تكرارية، فإن خلخلة بنية التكرار، بإسقاط كلمة "للدماء" في الدور الثاني في نسق الجملة وحذف كلمة "مشتاقة" في الدور الثالث من ذات الجملة، تأكيد آخر لغياب فاعلية الدم، وبقاء هاجس الشوق لهذا الأخير حاضراً يرف في بنية التكرار.

ومهما يكن من أمر فإذا كان نبض السؤال وقلقه، في نفس الذات، يشي بتراجع العنف عند الجماعة، كوسيلة خلاص، وانفراد الذات بحمل الهم الجماعي على مستوى القول، فإن الذات تدرك أبعاد وحدود القول مهما بلغت حدة لغته، وبخاصة حين لا يستند إلى مرجعية فعلية تنقله من طور الكلام إلى طور الفعل ن ولذا كان هناك اتكاء خاص على دور الفعل في نطاق الجماعة، "لكن الفعل دواء لا يخطئ" "فالفعل دواء لا يخطئ" ويتم ذلك في سياق الاستثارة الحافزة إلى الفعل من منظور الأمر والسؤال، "قالوا" "أسألكم"، لكن خيبة الذات في المخاطبين، تبدو أبعد من حدود الأمر أو التساؤل، وهو ما يفزعها إذ يتصدع حلم التغيير، وتبقى الذات وحدها في متاهة الحلم، أو الوهم، ولذا نجدها تشتاط غضباً حين يداخلها هذا الإحساس، فتجسده في عبارات مهينة، "من يعرف، يا أبناء اللغة الملعونة، حجم الهم "، "من منكم يا أبناء وحيد القرن..." والتعبير الأخير يتكرر للمرة الثانية، موحياً بالحالة النفسية التي تجتازها الذات في علاقتها بالجماعة.

إن قراءة أخرى لبعض عبارات النص وبخاصة حديث الشاعر عن أبناء اللغة الملعونة والكلمات الملعونة، قد تبدو وثيقة الصلة بعبارة أخرى سابقة، تجسد هم غياب الوعي، الذي تول إلى معاناة أخرى، "يا من حولهم حقد الحب النائم سيفاً آخر في ظهري"، وتشير رمزية السيف في الظهر إلى كلمات النقد القاسية التي تعرضت لها الذات في خلافها مع الجماعة، ومن هنا جاء الوصف بالملعونة منصباً على اللغة والكلمات التي كانت كالسيف في الظهر، وبذا تصبح لغة الشتم، ووصف الجماعة بأبناء وحيد القرن، أمراً مبرراً من هذا المنظور، علاوة على إحساس الذات بالانهزام في تثوير الجماعة.

ولعل وحدة التطرف، في التمرد والرفض، وشهوة الفوضى، في بعثرة الأشياء من أجل إعادة إصلاحها في سياق نظرة مختلفة، قد تبدو غير مقنعة عند الآخرين، مما يجعل من اختراق القناعات السائدة أمراً بالغ الصعوبة، وتعترف الذات بفشلها في هذا الجانب حين تقول : " وما دمت قد فشلت في تغيير الواقع فلن أسمح له، على الأقل، أن يغيرني على هواه زاهداً في كل شيء، لا تغريني سوى الحرية (قاسم حداد، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر، ص57 ومابعدها) تلك الحرية التي تحقق له ذاتيته بعيداً عن مستعبدات الآخرين :

مشى في شهوة الفوضى
يواري كل شيء في فضاء الشرق في شكل له
لا يقبل الترميم
مشى في وحشة التهويم
وحيداً صار في حل من التنظيم
يمشي خارج التقويم (قاسم حداد، النهروان، البحرين 1988، ص14 ومابعدها)

إن لحظة الإحساس بالانكسار تمنح الذات قدرة على التوهج، واستنفار كل كوامن الوعي فيها، ووضعها في إطار المرأة التي تنعكس على صفحتها كل الزوايا التي تظهر العملية الرؤياوية في علاقة الذات بنفسها من جهة أو علاقتها بالآخرين من جهة أخرى مؤكدة على تفرد الذات وانفصالها لا على مستوى الجماعة فحسب بل حتى على مستوى المكان والزمان، "مشى في وحشة التهويم "، " يمشي خارج التقويم "، إن نظرة الذات إلى نفسها خارج الأبعاد الفيزيائية للزمان والمكان، لا يعدو أن يكون اختباراً ذاتياً لصلابة الموقف في مواجهة التحدي.

وهكذا نلاحظ أن نزعة التمرد، والدعوة إلى الفوضى، والرفض المطلق، لكل أشكال السلطة المكرسة والاستعانة عليها بأدوات الحلم والمخيلة لفض العصي والمغلق واكتشاف الحقيقة خارج فيزيائية الزمان والمكان _ كلها سمات مهيمنة على معظم التجارب الشعرية عند قاسم حداد، مكونة له في ذلك موقفاً فكرياً من الحياة، والواقع، وهي بهذا لا تختلف في مضامينها عما يتردد من أفكار ورؤى في خطابه النقدي الذي رأيناه بعضاً من نماذجه في مطلع هذه الدراسة.

2 _ الذات ومساءلة الواقع

لا يمثل الواقع عند الذات إلا المصدر الذي يمدها بالعناصر التي تساعدها على تشكيل الموقف المناهض، ومن ثم فهي تؤكد ابتداء على أنها لا تعكس الواقع ولا تحاكيه، وأن ما تراه ليس هو الواقع الحقيقي وإنما صورة مصغرة غالباً ما يكتنفها الزيف والتشويه، وأن خلف الصورة يكمن المشهد المضمر الذي ينبغي تجليته، وهتك أستاره، لهذا يستهويها استجواب الواقع، وإغواء المستتر (موت الكورس، البيانات، ص101) ، فيأخذ الوضع المأساوي للإنسان في هذا الواقع اهتماماً خاصاً باعتباره الأداة الفاعلة في التغيير، وبدون فهم قيمة الإنسان على هذه الأرض، تفقد الحياة معناها وجوهرها:

قل لي يا شيئاً يجهلني
هل تعرف ما معنى الإنسان
يعيش بلا طير يصدح
هل تعرف ما معنى الإنسان
يعيش العرس ولا يفرح
من غير سماء تعرفه
مجهول القصة والعنوان (قاسم حداد، البشارة، الطبعة الثانية، الكويت 1984، ص100)

يسقط الخطاب ابتداء عن عمد علامة الاستفهام من صيغة السؤالين، في الرسم الكتابي ليفسح مجالاً أرحب للتأمل فيما يطرح من تساؤل حول معنى الإنسان، ومضيئاً في الوقت نفسه نقطة التساؤل بجملة فعلية تنطوي في ظاهرها على إشارة رمزية تعمل على تحويل الموقف من سؤال إلى لغز يستعصي على الفهم، وتتكرر جملة السؤال ذاتها وبالتقنية السابقة نفسها مدعومة بإضاءة أكبر لصيغة السؤال الثاني لتعميق غموض معنى الإنسان في هذا الواقع. ومن الجلي أن العلاقة، بين المتكلم والمخاطب، في صيغة ملفوظات السؤال، علاقة يسودها التوتر يفضح فيها المتكلم المخاطب، على نحو يكشف عن معنى سقوط الإنسان عند المخاطب، الذي لا يصرح باسمه وإنما يكني عنه بلفظة "شيئاً" في سياق النكرة غير المقصودة تهويناً من شأنه، في مقابل لفظة "يجهلني" التي تتداعى في سياقها مأساة الإنسان المقموع تعبيراً، وفرحاً، والمطارد سياسياً فلا يهنأ باستقرار أو حياة آمنة، مما يدفع باتجاه بلورة موقف قائم على الرفض من كلا الاتجاهين : سلطة الواقع المرموز لها بـ "شيئاً" وهي ليست مجهولة بحكم الواقع، لكها نكرة بحكم الرفض من الآخر، والإنسان المجهول بحكم الواقع، لكنه في ذاته غير مجهول إنه "الإنسان" وليس جنس الإنسان، ولذا كانت أداة التعريف عميقة الدلالة في إشارتها إلى واقع بعينه.

ويبقى التساؤل قائماً من غير إجابة، وما ينبغي أن تكون له أصلاً إجابة، إذ ليس الهدف بحثاً عن إجابة أو تفسير أو تعليل يبدد القلق ويعيد الاطمئنان إلى النفس بقدر ما هو محاولة لإعادة التفكير في الواقع وتحريك العقل باتجاه لا معقوليته التي تهدم جوهر الإنسان وروحه.

ويظل الإنسان عند الذات هو الهاجس الأكبر الذي تسعى إلى إظهار معاناته في أبشع الصور التي تجسد زيف الواقع ونفاقه (باعتبار الإنسان الركيزة الأساسية للحياة، وإن امتهانه أو التعدي عليه امتهان للحياة ذاتها، أنظر على سبيل الأمثلة البشارة ص44، 97، 99) في محاولة منها لخلخلة القيم الاجتماعية الراسخة، ومن هذا المنظور ترسم لنا الذات في قصيدة "ثورة من الداخل" معاناة الفتاة مع القيود البالية التي تمنعها من الإحساس بنشوء الحب ن أو الإعلان عنه :

يثور الحب في قلبي... من الداخل
ويهتز الصدى في الصدر يا أمي..
بلا حسبان
وأشعر نشوة الإنسان
حين يعيش
حين يثور
حين الرعشة الأولى
أحس حقيقة الإنسان...
سئمت تحجر الكلمات فوق جدارنا الصخري
سئمت الموت عبر حياتنا يسري
أريد الحب أشعره كما الإنسان
أنا إنسان يا أمي... أنا إنسان (المصدر السابق، ص43 ومابعدها)

وإذا يأخذ الخطاب بتصعيد الإحساس بالقمع المتجاوز لإنسانية الإنسان، في المشاعر والخلجات التي تمور بها الصدور، فإنها في الوقت ذاته لا يغفل الإحساس بإظهار مشاعر السخط والتذمر من تلك القيود المحطمة لإحساس الإنسان بأنه إنسان قبل كل شيء لذا تأخذ لفظة "الإنسان" عبر أنسجة النص، في مستوياته التعبيرية المختلفة بعداً أساسياً في إبراز وعي الإنسان بإنسانيته، التي لا يجد وسيلة متاحة لممارستها وسط مظاهر الحصار المتنوعة، فتتكرر تلك اللفظة المثيرة ست مرات، حتى تحولت إلى نغم إيقاعي يجلو مشاهد الصورة العامة للخطاب.

ومع أن النص في ظاهره يشير إلى وضع الأنثى وحقها في ممارسة الحب في واقع يرفضها، ويرفض الاعتراف بمشاعرها، فإن دلالته العميقة تتجاوز ذلك ليصبح دلالة رمزية تتناول قضية الإنسان بصورة عامة، وحقه في ممارسة مشاعره وأحاسيسه بصورة تتلاءم مع إنسانيته.

إن الحضور الطاغي للذات في لحظتي الوعي وتوهج الشعور، كما يجسدها ظرف الزمان "حين" الذي يتكرر ثلاث مرات يسهم بصورة فاعلة في إبراز عناصر الغياب المضمرة في الذاكرة على نحو يكشف عن مشاعر الرفض الممثلة بالإحساس بالسأم من الكلمات المتحجرة، ومن الموت البطيء الذي ينخر أنسجة الحياة، والتطلع إلى حياة خالية من السجن والسجان والسوط المهين لكرامة الإنسان.

بمثل هذه الرؤية تتضاد الذات مع الواقع في قيمه ومعتقداته، مشكلة لها موقفاً تبدو فيه مقهورة بسلطة واقع يسوده القمع، وتحكمه التقاليد والعادات البالية، التي تستمد وجودها من المألوف والممارس بحكم العادة لا العقل والمنطق.

وبقدر ما تصبح الذات أكثر حصاراً وتضييقاً عليها، تتفجر بالأسئلة التي تصطدم بواقع صلد، لا تؤثر فيه معاول الأسئلة بل تتحطم على صخرته القاسية.

وأبقى وحيداً أمام الجدار
وتبقى معي
وتبكي بطيئاً قبيل النهار
وأبقى وحيداً.. وحيد
أغازل نفسي على الماء مرة وأضحك مرة
وأبكي كثيراً...
لأن الصغار.. بدون عشاء
ينامون دوما،ً بدون عشاء
لأن الشتاء
يعود سريعاً ونحن عرايا
بدون طعام بدون لحاف بدون غرام.
وأبكي لأن الفؤاد الصغير
يظل حبيساً وراء الجدار
لأن الجار يظل ثقيلاً على كاهلي
فلا تسألي...
لأن السؤال يلح.. يلح بدون انفجار (المصدر السابق، ص117 ومابعدها)

يفصح الخطاب عن أزمة القلق في انتصاب الجدار حاجزاً عن ممارسة الحب بين الذات والآخر (الأنثى) ويبقى الحرمان حاضراً في فضاء التفكير بالحب، فالحب يموت قبل أن تكتمل فصوله، ولا تملك الأنثى إزاء هذا الموقف إلا البكاء، في حين تنكفئ الذات على نفسها، ومجسدة مشهد الوحدة القاسية في توزعها بين مغازلة الذات لنفسها، في انعكاس صورتها على صفحة الماء، وضحكها من هذا المشهد الساخر لكسر طوق العزلة. وقد يكون هذا السلوك العفوي من الذات والآخر تجاه تجاوز الحدود والقيود المحبطة للحب صورة نمطية تعبر عن حالة العجز التي تعتري الإنسان ذا الموقف، حين لا يكون قادراً على تفجير الحاضر، والنزوع إلى المستقبل برؤية جديدة، فالمشهد لا يخرج عن دائرة الوصف الذاتي لحالة العجز، التي تسلم إلى حالة عجز أخرى، تتجاوز فهيا الذات فرديتها لتطل على المصير الجماعي الذي يستكنه الحرمان الممض فهناك صورة الأطفال بدون عشاء _ وهذا ليس حدثاً عابراً بل ملازماً لهم "ينامون دوماً بدون عشاء " _ وهناك صورا الـ "نحن" عرايا بلا دثار أو طعام أو غرام، ولا سبيل إلا البكاء، خروجاً من مأساة الحس المفجع بمظاهر الحرمان والحصار على المستويين الفردي والجماعي، ولكن يظل إحساس الذات باختناقها من انتصاب الجدار هاجساً ماثلاً أمامها في نهاية الخطاب، كما هو في أوله، يدفع باتجاه التساؤل الملح، غير أنه لا يفضي إلى المتوقع منه، مما يزيد من شعور الإحباط والقلق، وهي الرؤية التي يريد الخطاب التنبيه إليها.

ومن الجلي أن العناصر التكوينية للخطاب تنبع في أساسها من محاصرة العلاقة بين الذات والأنثى _ الحاضرة الغائبة _ بفعل خارجي مفروض عليها، فالأنثى حاضرة في الذهن، وغائبة في الواقع، ولذا ليس غريبا أن يعبر عنها بضمير الغيبة في مطلع الخطاب، لتأكيد محاصرة الغياب لهذه العلاقة، التي ينتصر عليها بفعل المخيلة التي تحولها إلى لحظة حضور دائم، "وتبقى معي" ليتم بالتالي مخاطبتها بضمير المخاطب، "فلا تسألي" تجسيداً لفاعلية هذا الحضور في الذهن رغم الحصار.

وتكشف المكونات النحوية في بناء الخطاب، لتصوير الواقع، عن محاولة لإضفاء صيغة حية لحركة الزمن ن من خلال بناء الفعل في صيغة الفعل المضارع، على امتداد شبكة خيوط النص سواء كان في سياق ضمير المتكلم، أو المخاطب أو الغائب، مما يوحي باستمرارية حضور هذا الواقع الذي يسائله، في حين أن العلاقة بين الفعل وفاعله يسودها الإضمار، فالفاعل في معظم الأحوال يبقى ضميراً مختبئاً في بنية تشكيل الجملة النحوية، وهذا البناء اللا واعي لتلك العلاقة الإضمارية يومئ إلى الإحساس بالانفصال عن الواقع من جهة، كما يمكن اعتبارها من جهة أخرى متوائمة مع حركة تغييب أو تهميش دور الإنسان، الذي تؤكد عليه الذات، كما رأينا في بعض النصوص السابقة.

وحين يبلغ امتهان الإنسان درجة شمولية تندفع الذات إلى ابتكار المشاهد المهينة والجارحة للذوق أحياناً لتجسيد بعض من نماذج هذا الامتهان إمعاناً في تفكيك وفضح سلوكيات الشريحة المهيمنة على حياة الآخرين.

وكان الذي فوقنا
يبول علينا، ونحن نقول : اسقنا
ونشرب، نسكر حتى تمر الليالي علينا
وحتى يصدق أن السكوت كلام
نسير ونعرف كيف نشق التراب، ونبذر داخله الكائنات
وكيف نحزّ الرؤوس ونزرعها عبر كل العصور
(قاسم حداد، خروج رأس الحسين من المدن الخائنة، دار العودة، بيروت 1972، ص65 ومابعدها)

هذه الرؤية المجازية تنطلق في جوهرها من الإحساس بالانسحاق من الداخل الذي ينعكس في مرآة خارجية، ذات بؤرة واسعة، تستوعب مشهداً جماعياً لحالة الامتهان والذل، لجعل العالم الخارجي أكثر حضوراً. وتفرض سردية الخطاب في سياق الماضي "وكان الذي... " إشكالية التفرقة بين زمنية الواقع المقدم، وزمنية الكلام، فالتوازي بين الزمنيين معدوم لاختلاف طبيعتهما، غير أن الذات تحتال على ذلك، لجعل التوازي ممكناً إلى حد ما، بأن تملأ المشهد بالتفاصيل المجسدة لطبيعة العلاقة التي تربط بين السلطة المستبدة والجماعة، لتقفز بالتالي من أحادية الرؤية إلى تعدديتها، متكئة في ذلك على البنية النحوية للخطاب، التي تشير بصورة مباشرة إلى الواقع المعيش، من خلال هيمنة الفعل المضارع على أنسجة النص على الرغم من أن اللحظة التي ينطلق منها الخطاب لحظة ماضية لكنها مرتبطة بالحاضر الذي يعقبها، في إشارة إلى حضور هذا الواقع واستمراره، وارتباطه بلحظته التاريخية، ومهما يكن من أمر فإن التفرقة بين الزمنيين : زمن الحدث، وزمن الكلام تظل حاضرة لا يمكن تجاهلها حتى مع امتزاج الماضي بالحاضر، وتأكيداً لاستمرارية الحدث نفسه.

ومن الجلي أن الخطاب هنا لا يتحدث عن واقعية حرفية، وإنما يجنح إلى ترميز الواقع ترميزاً يكشف عن نمطية العلاقات الطبقية في عالم يرفض احترام إنسانية الإنسان، وحسب تلك الجملة البغيضة، في صدر الخطاب، "وكان الذي فوقنا يبول علينا"، أن تختزل كل مشاعر الصلف من جهة، والذل والامتهان من جهة أخرى، اللذين يغيبان فاعلية الإنسان في مواجهة الموقف إلا من جانبه السلبي المغرق في السلبية، ولكنها السلبية المهادنة التي تختزن في أعماقها كل عناصر الثورة والانتقام.

ويصبح غياب الوعي الجماعي مشكلة تؤرق الذات في عدم القدرة على التوازي من غياب الوعي عند الآخر، مما يدفعها إلى تعميق وعيها بطرح الأسئلة البالغة الحساسية تجاه الأشياء الثابتة، التي يتجنبها الآخر غفلة أو جهلاً أو خشية، وهي بهذا تطور إشكالية الحضور إزاء الواقع بدفعها إلى أقصى درجات التأزم مع الذات بغية تعرية الواقع، وكشف عواره، وتفكيك بنيته التحتية :

حوانيت توزع مرض الحزن والنوم. ومصحات
بحجم السأم المرابط تنشر سلالة الشرطي
والصلاة والشفق واحتقان الأمل في الوريد
وتحتل الغفلة جيلاً بلا أسئلة
أنا خندق عمقته السؤالات والشك أن الطفولة ماء
وأنّ التخيل طريق إلى الماء
وطن !؟
هذا انتظارُ مجرمُ
هل يخرج التمثال من أحجاره السوداء. هذا وطن
قولوا
لماذا ؟
كيف ؟
من أين ؟
إلى أين ؟ (قاسم حداد، الدم الثاني، ص42 ومابعدها)

بمثل هذا التصور يبدو الواقع عند الذات مؤلماً، يتغشاه الحزن والخمود، وتتعاوره عناصر الهدم والسأم المرابط، ويحتقن الأمل في الوريد، ويغيب الوعي، فلا مساءلة ولا أسئلة على امتداد جيل كامل ن وغياب المساءلة يعني غياب العقل واختفاءه، وهذا ما يبدو أن الخطاب يومئ إليه بصورة غير مباشرة، ليثير في الجماعة لحظة تأمل فيما حولها من أشياء لمسببات الحزن والسأم، في سياق ترميزي يجتلي الذات والآخر، وبمقدار ما يغيب الوعي عند الآخر، يتوهج وعي الذات بنفسها في موقف مفارق مؤكدة فيه حضورها المتمايز، إذ تصبح خندقاً من التساؤلات والشكوك التي تمس بداهة العلاقات بين الأشياء في أسمى براءتها ونقائها، (الطفولة + الماء + النخيل) وأن مجموع نتائج هذه الأشياء هو الآتي الذي طال انتظاره ليغير وجه الحياة، لكنه لا يأتي، ومن ثم يصبح الشك والتساؤل هو الطريق إلى تثبت هوية الذات في خضم الغفلة الجماعية التي تهيمن على الواقع.

ويصبح الوطن، من خلال تنامي حس القلق على المستقبل، مثار الهاجس الأكبر المهيمن على الذات، في قلق الانتظار والترقب، ولذلك تصبح عبارة "هذا انتظار مجرم " مجسدة لمشاعر السخط التي تصطدم بالواقعية المضادة لمفهوم الوطن عن الذات، ومن هنا نجد أن لفظة "وطن" الواقعة في سياق التساؤل المجرد من أدوات الاستفهام التقليدية هي البؤرة المثيرة، والمفعمة بالدهشة، لتضاد مفهوم الوطن عند الذات، والواقع، ومن ثم فلا غرابة أن تجنح الذات في خضم هذا التضاد الضمني إلى الدخول في محاجة ذهنية مع الواقع في التفاتة إلى الآخر، "هل يخرج التمثال من أحجاره السوداء "؟ تلك هي المعادلة الصعبة، التي تنفجر به الذات باحثة عن إجابة شافية تبدد قلق المصير، ولا يخفي أن تلك الصفة "السوداء" التي وسمت بها حجارة الوطن، لكن هذه المحاجة على أية حال لا تتوجه إلى الذات قدر توجهها إلى الآخر، الذي يستقطب اهتمام الذات فتضع أمامه حسها الفردي تجاه إشكالية الوطن "هذا وطن!" ثم لا تلبث أن تدخل في لعبة المساءلة من منظور الوعي الجماعي المدفوع بالحس الفردي "قولوا" لتنفجر بعدها الأسئلة في سياق التوجيه الذي تفرضه الذات، في إطار الدعوة إلى القول، وهي أسئلة محددة تنطلق من رؤية البحث عن السبب والكيفية والمصير، في رحلة استكشاف جماعي للواقع، بغية تحقيق تجانس بين الرؤيتين الفردية والجماعية، فلا تصبح بعده الذات معزولة عن الحس الجماعي الذي تعول عليه كثيراً في تغيير الواقع.
[/align:da744ba135]

الموضوع سيتم إكماله في الحلقة القادمة

مع خالص حبي وتقديري

محمد
 

ليل المحرق

Active member
رد: مختارات من قلب الحب.. قاسم حداد

من خلال هذه القصيدة.. نتعرف على عالم قاسم حداد الذي تحدثت عنه.. عالمه المميز.. والمختلف
قصيدة رائعة فعلاً.. مأدبة البحر..
هنا نرى الى اين يمكن ان يصل خيال قاسم .. وابداعه

...فجاءنا بكل أسماكه وأعشابه
وقواقعه وأمواجه..
وكثير كثير من الملح..
وكان العشاء جاهزاً..
هل جرب أحدكم ان يدعو البحر على العشاء..؟
كان علي ان أفعل ذلك..
فقد كانت حبيبتي تحب البحر..
الى درجة الغيرة..
وفي غمرة الغضب..
وعدتني انها ستقلع عن البحر..
اذا دعوته على العشاء..
لمرة واحدة فقط..
...فجاءنا بكامل حلته..
فتحولت الدار الى سواحل..
وكنت أتجرع غيرتي قدحاً..
قدحاً..
فيما كان البحر يعلم حبيبتي العوم..
وهي تفتعل الغرق في كل مرة..
وقبل ان يتفجر الجحيم في رأسي..
جاء من يطرق الباب:
- على البحر ان يذهب..
لأن السفن معطلة عن السفر..
واسترحت في وداع البحر عند الباب..
قال: (عشاءكم طيب ومغر)..
وذهب..
وحين دخلت الى حبيبتي..
اسأل عن وعدتها لي..
وجدتها قد اقلعت..
ولكن في البحر..!
 
أعلى